كتب رياض الفرطوسي
قال الدكتور علي الوردي (عالم الاجتماع العراقي 1913–1995) في تحليله النفسي والاجتماعي، إن ازدواجية الشخصية كانت سمة مميزة في مجتمعاتنا، لكنّ الواقع اليوم يكشف عن أفق أوسع وأكثر تعقيداً. لم تعد الشخصية مزدوجة، بل صارت تشكّل ألف وجه، تتلون بين المواقف والأشخاص، وتحمل آلاف الألوان التي لا تُحصى.
في عالم القمع والاضطرار الاجتماعي، حيث يُفرض على الإنسان أن يتقمص أدواراً متعددة للبقاء، يصبح الفرد أشبه بمؤسسة متنقلة تعجّ بالشخصيات. مع كل لقاء، ومع كل تفاعل، يُطلِق هذا الإنسان نسخة جديدة من ذاته، تختلف في التعبير وفي اللغة والقواعد، حتى هو نفسه يغدو غريباً على ما كان يظنه حقيقته.
هذا الانشطار النفسي والاجتماعي لا ينشأ من نزعة نفسية عشوائية، بل هو نتاج ثقافة القهر والتسلط، حيث الخوف يصنع الأقنعة ويحوّل الإنسان إلى كائن متلون. تفرض الظروف عليه أن يتعامل مع كل فرد بمنطق مختلف، حسب موقعه وقوته، خوفاً من العقاب أو طمعاً في نيل منفعة. على مدى سنوات، تغرس هذه الوجوه المتعددة وتتعمق في النفس، حتى تتحول إلى نسيج مركب من الهويات المؤقتة التي تتبدل بلا وعي.
ومع كل محاولة صادقة للتواصل، تتبدى هذه الحقيقة، فتصدمك وجوه متعددة تصدر عنها ردود فعل متناقضة، أحياناً ما بين الصداقة والغضب، بين الاعتذار والتهديد. كأنك تدخل في متاهة لا مخرج منها، فتقع في حفرة مظلمة من الصراعات النفسية والاجتماعية، تتشابك فيها الأدوار، ويتداخل فيها الصوت مع الصمت.
هذه الوجوه ليست مجرد أقنعة؛ بل هي مراكز قوة اجتماعية تحمي صاحبها، بل تفرض عليه أن يبقى فيها، فتتحول العلاقة بين الناس إلى شبكة من الولاءات والخصومات تتنفس على وقع الطاعة والخوف. وإذا غضب أحدهم، ينفجر غضب جماعة كاملة، كما وصف الشاعر جرير قديماً حين قال:
"إذا غضبت عليك بنو تميم ــــ حسبت الناس كلهم غضابا".
وفي زمن التواصل الاجتماعي، حيث تنتشر الأصوات بلا ضوابط، تصبح هذه الديناميكيات أكثر حدة ووضوحاً. إذ تتحول الصفحات الافتراضية إلى ساحات قتال، حيث يهاجم "الجيش" الموالي لأي وجه غاضب، ولا مجال فيها للحوار أو الاختلاف. هناك، لا توجد أفكار، بل قبائل، وكل قبيلة تدافع عن وجهها بكراهية متجددة.
على النقيض من ذلك، تعرف المجتمعات المتحضرة قيم الفردية واحترام المسافات الشخصية والاختلاف، حيث تُحترم الحقوق وتُشرع القوانين التي تحمي حرية التعبير، حتى لو كان النقد موجعاً. ففي بلاد مثل النرويج، يُسمح بالبحث في تاريخ الملوك دون ملاحقة أو تهديد، ويُناقش الناس الحقيقة دون أن يتحولوا إلى أعداء.
إن تعدد الوجوه هذا، هذا "الألف وجه" الذي يكتشفه كل من يتعامل مع مجتمع القهر، هو صورة معقدة لواقع إنساني صار فيه البقاء أسمى من الصدق، والطاعة أهم من النزاهة. هذه ليست معضلة شخصية، بل هي انعكاس لآلية قمع عميقة أُغرست فينا منذ الولادة، وصارت تشكل ملامح وجودنا.
حين نرى الإنسان بهذا الشكل، ندرك أن ما نراه ليس إنساناً واحداً، بل مظاهر متحركة من الهويات، كل منها يحكي قصة خوف، وكل وجه هو باب يفتح على سرديات متعددة من التكيف أو التمويه أو الاستسلام.
في النهاية، لم يعد الفرد مجرد كائن مستقل، بل أصبح مجموعة من العلاقات المشروطة والمصالح المتبادلة، تتغير مع تغير المكان والزمان، حتى صرنا أمام "مؤسسة متنقلة" تسير على إيقاع الطاعة والقلق، تبحث عن لحظة أمان في بحر لا يهدأ من الوجوه المتغيرة.