كتاب واراء

ظل السلطة

ظلّ السلطة

 

كتب رياض الفرطوسي

 

ليست الديمقراطية في أمريكا، كما يُخيّل للعين البعيدة، سوى مسرح هائل الإضاءة، يُبدّل ديكوراته كل أربع سنوات، فيما يبقى المخرج خلف الستار نفسه، ثابتاً، لا يتزحزح. لا الرئيس هو بطل الرواية، ولا الحزب الحاكم هو من يُدير دفّة الأحداث. كل شيء يُصاغ في الظل، هناك حيث تتحرك الدولة العميقة، لا كعصابة سرّية، بل كنظام متكامل، صلب، هرم من المصالح المركبة، ترفعه أكتاف شركات السلاح والدواء، وتموله مصارف عابرة للقارات، وتُشرف عليه تحالفات إعلامية تعرف كيف تُعيد تشكيل وعي الناخب، وتعيد طلاء القبح بالأمل.

 

الرئيس؟ لا أكثر من واجهة بلاغية. حتى حين يُدعى "استثنائياً" ، فإنه استثناء من نوعٍ خاص: ظاهرة لفظها النظام من داخله، لا من خارجه. إنه ليس ضد الدولة العميقة كما يُروّج، بل هو إحدى أدواتها التي شاءت، في لحظة تحوّل، أن تُجرّب وجهاً أكثر وقاحة، أكثر صدقاً مع أنانيتها العارية.

 

في الولايات المتحدة، لا تُحكم الشعوب بالحلم وحده، بل تُقاد بنزعة السيطرة المموّهة بالقانون. في الخلف، تتكدّس اللوبيات: لوبي السلاح، لوبي الدواء، لوبي إسرائيل، لوبي النفط، ولوبي الإعلام. كلهم شركاء في صياغة القرار، وكلّ رئيس لا بد أن يُسلّم رأسه لهم، أو يُقصى خارج المشهد، كما أُقصي نيكسون ذات فضيحة. غير أن بوب وودورد، الصحافي الذي فضح نيكسون، كشف ما هو أفظع من تسجيلات، حين كتب عن غزو العراق. ففي كتابه "خطة هجوم"، سرد كيف اجتمع جنرالات البنتاغون، وكلّهم أصحاب مصالح تجارية، ليتقاسموا مُقدّماً غنائم الحرب: الجسور التي ستُدمّر، محطات الكهرباء التي ستُقصف، الأنقاض التي ستُباع، والعقود التي ستُمنح، تحت عنوان زائف: إعادة الإعمار. لم تكن حرباً، بل مزاداً على الخراب.

 

ذلك هو وجه الدولة العميقة: عقل حسابي لا يأبه بالأخلاق، يبرمج الدماء كما يبرمج الأسهم، ويرى في كل أزمة فرصة، وفي كل رئيس أداة، حتى لو بدا هذا الرئيس كمن يقاومها. إن فوز ترامب، في موجته الأخيرة، لم يكن نتيجة حماس شعبي فجّ، بقدر ما كان تتويجاً لماكينة إعلامية ضخّت في وعي الناس ما يكفي من الخوف، من الكراهية، من الحنين إلى "الهيبة الأميركية"، حتى بدوا وكأنهم يصوّتون له، بينما هم في الحقيقة يُستدرجون إلى قبول أسوأ نسخة من أنفسهم.

 

هل الرئيس خارق؟ لا. هو ابن نظام يعرف كيف يُعيد تدوير الغضب، كيف يروّج للاحتجاج داخل صناديق الاقتراع، ويصنع من التمرّد واجهة جديدة للامتثال. لقد اتُهمَ بأنه ضد الدولة العميقة، وهو في الواقع جزء منها، بمزاج مختلف. لم يكن يسعى إلى تفكيكها، بل أراد قيادتها بطريقته، بخطابه الشعبوي، بتعيين الموالين، بطرد المشتبه بهم، ببناء سلطته لا ضدها، بل من داخلها. ولذلك، حين نُشرت وثائق تسرّبت من داخل إدارته، لم يكن غريباً أن يُحمّل "الجهات الخفية" المسؤولية، وأن يُلمّح إلى "مؤامرة على الرئاسة". لكن المؤامرة الحقيقية، كانت أنه ظن نفسه أصل الحكاية.

 

تُذكّرنا الرأسمالية الأميركية، في صورتها الراهنة، بتلك النبوءة الماركسية التي توقعت: أن تصل المؤسسات المالية والإنتاجية إلى درجة من التوحش تُصبح فيها القوة هي المنطق الوحيد. وهذا ما نراه الآن: كارتلات تتحكم في الدواء والغذاء والدم، شركات تشتري حتى جثث المشرّدين لتبيعها للمختبرات، منظومات أمنية تدير الصراع حول العالم لا باسم السلام، بل باسم الأرباح. ومن يقف أمام كل هذا؟ رئيس؟ هيئة؟ مستشار؟ لا شيء قادر على فرملة قطار تدفعه عجلات المال، وتمدّه الوقائع بوقود الاستمرار.

 

وإذا كانت الأيديولوجيات تُدافع عن نفسها بالقمع، فإن الرأسمالية تدافع عن نفسها بالعلم. حين تهتز، لا تُطلق النار، بل تُطلق البحوث. تُموّل المختبرات لا لتخدم الإنسان، بل لتصنع منه مستهلكاً أكثر انضباطاً، ورقماً أكثر طاعة. تُعيد هندسة العقول لا من خلال الشرطة، بل من خلال الأخبار، والسينما، وشركات التواصل. وحين يَخرج ترامب من هذا المصنع، يبدو وكأنه آتٍ من خارج النظام، فيما هو في صميمه: نسخة جديدة، أكثر شراسة، أكثر تجارية، والأهم: أكثر جذباً لجمهور تم تعليبه قبل سنوات.

 

من هنا، فإن فهم "الدولة العميقة" لا يعني تفكيك مؤامرة خفية، بل الاعتراف بوجود نظام متكامل من القوة والمال والإعلام، يتجاوز الأفراد، ويتحكم حتى في صانعيه. إنها شبكة من المصالح، تأكل حتى أبناءها، وتُعيد إنتاج ذاتها مع كل دورة انتخاب، وكل انهيار عالمي، وكل حرب جديدة.

 

فهل يمكن لأمريكا أن تتحرر من هذا الظل؟

أم أن الرئيس، مهما علا صوته، سيبقى صورة على جدار؟

والسلطة، مهما تبدّل لونها، ستبقى كما هي... في يد من لا يُرى؟


تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

المقالات الأكثر زيارة