كتب رياض الفرطوسي
لم تكن قمة بغداد مجرد اجتماع دوري لزعماء العرب في جدول السياسة المرهق، بل بدت وكأنها شهادة ميلاد جديدة لعاصمة اعتادت أن تُستدعى عند المحن وتُنسى عند المراجعات. فما جرى في بغداد لم يكن امتداداً نمطياً لسلسلة القمم العربية التي تغلب عليها الخطب وترتفع فيها الشعارات، بقدر ما كان حدثاً مفصلياً له ما بعده.
منذ أن أُقرّ مبدأ الانعقاد الدوري للقمم العربية عام 2000، تعوّد المراقبون أن يتابعوا المؤتمرات وهي تدور حول نفسها: أمنيات مؤجلة، كلمات منتقاة بعناية، وغالباً لا شيء يُنفّذ. إلا أن قمة بغداد الأخيرة جاءت بلغة مختلفة؛ كانت قمة مشروعات لا خطب، رؤية لا ردود أفعال، وحراك لا مجاملة.
لم يكن الفرق في الأوراق فحسب، بل في الميدان، في تفاصيل الأمن، في حركة الإعلام، في مشهد الشارع الذي لم يُقطع عن الحياة، وفي الروح التي بدا فيها العراقي وكأنه يتنفس للمرة الأولى بثقة أمام المايكروفون العربي. الصحفي الذي جاء إلى بغداد عام 2012 وأُجبر حينها على المكوث داخل الفندق، وجد نفسه اليوم يتجول بحرية، لا تراقبه بندقية، ولا تعرقله نقطة تفتيش.
إنها المرة الأولى منذ عقود يُمنح فيها الإعلامي العربي حرية الحركة الكاملة داخل بغداد. وهذا وحده مؤشر لا يُستهان به، لأن الحرية لا تُمنح عند الحدود فحسب، بل تُمارَس عندما تشعر أن المكان آمن حتى في عينيك.
والأمن هنا لم يكن طارئاً، بل مخططاً له ضمن منظومة ثلاثية الأبعاد: رسائل إلى الخارج بأن العراق عاد بقوة؛ رسائل إلى الداخل بأن العاصمة ممسوكة بلا عسكرة؛ ورسائل إلى الإقليم بأن بغداد ليست ساحة للفراغ بل مركزاً للتوازن. وقد أُنجز هذا عبر خطة أمنية مرنة، بلا اختناقات ولا استعراضات فوضوية، بوجود 600 منتسب وضابط يعملون بصمت ويضبطون الإيقاع دون أن يُثقلوا المشهد. وهذا بحد ذاته إعلان عن نضج المؤسسة الأمنية وخروجها من منطق الاستنفار إلى منطق السيطرة الواعية.
لكن ما يجعل هذه القمة مختلفة بحق، هو أن رئاسة القمة لم تكتفِ بكلمات منمقة، بل قدمت 18 مشروعاً تنموياً، من الاقتصاد إلى التكنولوجيا، من دعم النازحين إلى الذكاء الاصطناعي. مشاريع تم الاتفاق على أغلبها، ومُنحت لها اعتمادات مالية حقيقية، كالمبلغ المخصص للفلسطينيين في غزة واللبنانيين المتضررين. لم يكن البيان الختامي مجرد بيان؛ كان خطة عمل بأرقام ومعطيات واضحة.
بل أكثر من ذلك، فإن القمة أرسلت رسالة غير مباشرة لكنها شديدة الوضوح إلى العالم، مفادها أن العراق ليس عبئاً في المعادلة، بل ركيزة فيها. فالزمن السياسي الحالي لم يعد يحتمل الغياب أو التردد. ومع تزامن القمة مع زيارة ترامب للمنطقة، بدا المشهد وكأن الشرق الأوسط يعيد رسم حدوده، والعراق في قلب هذا الرسم. بغداد، المدينة التي أحاطت بها العواصف لعقود، تقدم نفسها الآن بوصفها المضيف القادر على إدارة الحوار العربي الجديد، وهي تفعل ذلك من دون ضجيج، وإنما عبر الاستعداد والتخطيط والتوازن بين ما تريده لنفسها وما تقدّمه لغيرها.
غير أن الأمن وحده لا يصنع المعجزة. فالعنصر الأهم، كما أشار المتحدثون، هو الشعب العراقي ذاته. مسؤولية إنجاح القمة لا تقع على الحكومة فقط، بل على وعي المواطن الذي يفهم معنى أن يُنظر إلى بلده بوصفه لاعباً لا مفعولًا به. في بلد ديمقراطي كالعراق، الشعب هو مصدر السلطات، وهو الوحيد القادر على حماية الصورة التي تُبنى الآن أمام أعين الإعلام العربي والدولي. هذه القمة لم تُعقد لتُرفع بعدها الأعلام وتُنسى، بل ليتحوّل ما قيل وما قرر إلى رصيد، وإلى بداية جديدة.
وهنا تكمن رمزية بغداد. ليست مدينة تطلب التعاطف، بل مدينة تُقدّم نموذجاً. ليست مجرد جغرافيا تلملم شتاتها، بل عقل سياسي واجتماعي بدأ يستعيد هويته بعد أن شوهتها الحروب والصراعات الداخلية. بغداد اليوم تُقدّم نفسها للعرب كما لم تفعل منذ عقود، بثقة مهنية، برؤية تنموية، وبلغة أرقام لا شعارات.
وهكذا، فإن الاختلاف بين قمة بغداد وسابقاتها، ليس في الظرف فقط، بل في الجوهر. إنها قمة أرادت أن تكون جزءاً من المستقبل، لا ملحقاً لتاريخ الندب والتعطيل.
وفي الطريق إلى شرق أوسط جديد، بغداد لا تنتظر أحداً. إنها تتكلم، أخيراً، باسم العرب.