كتاب واراء

سرداب أبو ياسين

 

 

كتب رياض الفرطوسي

 

لم يكن البيت الذي يعلو شارع ولي عصر في طهران، بعيداً عن المسرح الوطني، بيتاً عادياً. كان طابقه الأرضي، الذي يسمّيه الجميع "السرداب"، أشبه برئةٍ يتنفس بها من ضاقت عليهم الدنيا، من مختلف التيارات والانتماءات. هناك، تحت بيت الشهيد عز الدين سليم، المعروف بلقبه الحركي "أبو ياسين"، كان المنفى أقل قسوة، وكانت الغربة أقل ألماً.

 

في السابع عشر من أيار، قبل عشرين عاماً، ترجّل أبو ياسين عن صهوة الأيام. اغتيل عند بوابة المنطقة الخضراء، لكن صوته لم يُغتل، وظله لم يتلاشَ، بل بقي يتنقّل في ذواكر من عايشوه، أولئك الذين مرّوا بذلك السرداب، وتركوا فيه قطعة من حكايتهم.

 

لم يكن عبد الزهرة عثمان محمد مجرد مفكرٍ أو سياسيٍّ أو رجل حزب. وُلد عام 1943 في قرية الهوير بالبصرة، وشبَّ على حفظ القرآن الكريم في كتاتيبها، ثم تنقّل في مدارج التعليم حتى تخرّج من دار المعلمين عام 1964. لكنه لم يتوقف عند وظيفة التدريس. كان يريد أن يعلّم وطناً، لا صفاً. انخرط في حزب الدعوة الإسلامية، لا ليصعد، بل ليؤسس، ويكتب، ويمنح الفكرة وجهاً متسامحاً وعقلاً مفتوحاً.

 

ولأن البلاد كانت تضيق بأمثاله، خرج مضطراً من العراق في أواخر السبعينات، ليحمل المنفى كصليب طويل على ظهره، ويتنقّل بين محطات التعب، كاتباً ومفكراً، مؤسساً لمراكز ثقافية، وناشراً لأكثر من خمسة وستين كتاباً في العقيدة والتاريخ والفكر الإسلامي.

 

لكن، رغم كثرة كتبه ومؤلفاته، لم تكن أثمن إنجازاته شيئاً مما طُبع بالحبر. ما من كتابٍ حمل عبق حضوره كما حمله ذلك السرداب. لم يكن مكاناً تحت الأرض فحسب، بل فضاءً صنعه بيديه وعقله وروحه، ليكون وطناً مؤقتاً للمنفيين، وملاذاً دائماً للمتعبين. يساريون، إسلاميون، مثقفون، مشرّدون، طلاب علم، وحتى الذين لم يجدوا سقفاً يأويهم... جميعهم وجدوا في سرداب أبي ياسين شيئاً من الدفء، شيئاً من العراق.

 

لم يكن يسألهم من أين جاءوا، بل إلى أين تمضي قلوبهم. لم يتعالى يوماً، لم يختبئ خلف ألقاب أو منابر. جلس على الأرض معهم، تقاسم الشاي والحكاية، أنصت، ناقش، ضحك، واختلف كما يليق بمن يرى في التنوع قوة لا خطراً، وفي الحوار بداية لا نهاية.

كان يكره الاصطفاف الضيق، ويؤمن أن الحزب لا يُبنى إلا بالوطن، لا بالطائفة. وكان يرى أن المشروع الإسلامي لا ينهض إلا إذا انفتح على الآخر، وترك باب العقل موارباً أمام الأسئلة. كان نظيف الكلمة، طاهر اليد، واضح القلب، صادقاً في زمنٍ كان الصدق فيه مذمة.

 

حين التقيته في دمشق، في مساء رمادي يعبق برائحة الغربة والتيه، نظر إليّ بعينين يملؤهما الإعجاب، وقال بنبرة دافئة تشبه الاعتراف:

"رغم كل هذا المنفى، رغم الانكسارات والإحباطات، ما زلت تحلم، وتتأمل، وتكتب، وتفكر، وتتفاعل... كأنك لا تزال تؤمن أن للكلمات وزناً، وللأمل مكاناً."

ثم صمت لحظة، وكأن شيئاً في داخله كان يصغي لصوت أبعد من الكلام، قبل أن يقول بنبرة فيها ومضة نبوءة:

"نحن نرى نسيج العنكبوت، لكننا لا نرى العنكبوت... حتى يتحوّل إلى تنين."

قالها وكأنه يقرأ ما لم يُكتب بعد عن العراق، يرى كيف يلتف الوهم حول المعنى، وكيف تسقط الأسماء حين تتقدّم المصالح، وتُنسى الحقيقة تحت ركام الشعارات.

وفي آخر لقاء له مع الحاكم المدني بول بريمر، دار حوارٌ محتدم. قال له بريمر: "هذه آخر مرة أراك فيها." ولم تمضِ أيام، حتى صار جسد أبي ياسين شهيداً. لم يكن اللقاء نبوءة، بل تهديداً مغطى بالابتسامة.

 

كان مؤيد الكعبي يروي أن أبا ياسين كان من قلائل أعضاء مجلس الحكم الذين رفضوا مصافحة بريمر. لا كبرياء، بل مبدأ. لم يكن يرى في يد الاحتلال شيئاً يُصافح، بل طريقاً يُراجع.

 

اليوم، بعد عشرين عاماً، لا نزال نعيش في سردابٍ آخر. سرداب كبير اسمه اللا ذاكرة، سقفه الطائفية، وجدرانه الصفقات، وأبوابه لا تؤدي إلا إلى الانكسار.

 

لكننا لم ننسَ. لم يكن أبو ياسين صورةً تُعلّق على الجدار، بل درساً في الأخلاق، وسيرةً تُروى لمن يريد أن يعرف كيف يكون الإنسان فكرة، وكيف تصير الفكرة حياة.

 

شكراً لك، يا من علّمتنا أن البيت يمكن أن يكون وطناً مؤقتاً، إذا امتلأ بالصدق.

وشكراً لأنك جعلت من سردابٍ بسيط، خيمةً فكرية، ومدرسةً وطنية، وملاذاً لا يُنسى.

 

سلامٌ عليك، في الشهادة، كما في الحياة.

وسؤالٌ نتركه مفتوحاً:

هل يضيء السرداب من جديد؟


تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

المقالات الأكثر زيارة