كتب رياض الفرطوسي
في زحام العالم الحديث، وبين زوايا المدن وأزقة الفضاء الرقمي، يتجسد مشهد مرعب يجعل العنف سمة متجذرة في تفاصيل حياتنا اليومية. لم يعد التجييش الطائفي والاجتماعي مقصوراً على الخطابات النارية أو النزاعات المسلحة، بل أصبح ينمو داخل هواتفنا، ويتغذى على منصات التواصل، يتسلل إلى وعي الأجيال الجديدة، ويزرع فيهم نزعة عدوانية تحت غطاء التحفيز الغرائزي.
الأطفال، هؤلاء الكائنات البريئة، أصبحوا ضحايا لمشاهد مرعبة وأفكار مسمومة تبث على مدار الساعة. إن التجارب الأولى التي يعيشها الطفل تشكل هويته النفسية والعاطفية، فكيف له أن ينمو سوياً وهو يشاهد العنف يتجسد كحقيقة يومية لا فكاك منها؟ هذه المشاهد لا تخلق إلا ذاتاً مشوهة، ترى الحياة من خلال نظارات مغبرة، تفسد أجمل الحدائق وتجعل من الوجود مكاناً موحشاً.
هذا ليس محض مصادفة، بل هو جزء من استراتيجية تُطبَّق بدقة، تدرسها مراكز صنع القرار وتُنفذ بيد مواطنين محليين، يتم تحويلهم إلى أدوات لتنفيذ مخطط التآكل البطيء. إنها حرب من نوع جديد، لا تعتمد على الجيوش الجرارة أو الغارات الجوية، بل على تقويض المجتمعات من الداخل، عبر إنهاكها واستنزافها على مراحل، حتى تنهار تماماً من تلقاء نفسها.
لماذا لا يتم ضرب المجتمعات دفعة واحدة؟ لأن الانهيار المفاجئ يترك فرصة لإعادة البناء، بينما التآكل البطيء يضمن موت الدولة والمجتمع دون إدراك مسبق لحجم الخراب. يُستبدل الأمن بالقلق، والاستقرار بالفوضى، والهوية بالضياع. يتم توزيع السلاح على الجميع، فلا يبقى هناك ظالم ومظلوم، بل ساحة معركة مفتوحة تستمر إلى ما لا نهاية.
أصبحنا نحطم بعضنا البعض، مدننا، أجسادنا، وأحلامنا، لأن مسارات الحياة السوية تم تحريفها بعناية. باتت الحرب الاجتماعية أقسى من الحرب العسكرية، لأنها تستهدف النفوس والضمائر والقيم، لا الجدران والحدود فقط. يُديرون أزماتنا بدلًا من حلها، يُشعلون جبهة ويُهدّئون أخرى، حتى نصحو على مشهد خراب تام نظن أنه من صُنع أيدينا وحدنا.
وبينما يجلس صُنّاع القرار في العواصم الكبرى وراء مكاتبهم، يضحكون ساخرين من مشهد الدمار الذي نُنفذه بأنفسنا، نحن غارقون في البحث عن شماعات نعلق عليها أسباب المحو المنظم، مرة بالتاريخ، ومرة بالدين، ومرة بالثقافة التي نحمّلها وزر كل هذا العنف.
إن المعركة لم تعد على أرض الواقع فقط، بل تمتد إلى العقول، إلى الإدراك الجمعي الذي يتم إعادة تشكيله ليقبل الخراب كواقع محتوم. وما لم يكن هناك وعي ثقافي يقف في وجه هذا التآكل الممنهج، فإننا سنظل نستيقظ يوماً بعد يوم، نعيش موتاً بطيئاً دون أن ندرك متى فقدنا أنفسنا حقاً.