كتاب واراء

حين تُصبح الحقيقة رهينة الوهم: كيف نواجه طوفان الشائعات في موسم الانتخابات؟

 

كتب رياض الفرطوسي

في الأزمنة المضطربة، لا يحتاج الخراب إلى مدافع تهدر، ولا إلى جيوش تزحف، يكفي أن تنتشر شائعةٌ واحدةٌ كالنار في الهشيم لتُشعل فتيل الفتنة وتُربك العقول، فتغدو الحقيقة ضائعة في زحام الوهم. ومع اقتراب موسم الانتخابات، يتحول الفضاء العام إلى ساحة معركة غير منظورة، حيث تصبح الشائعات أدواتٍ فاعلة في التلاعب بالرأي العام وتوجيه مسارات الأحداث، وكأنها خيوطٌ تحركها أيدٍ خفية تتقن فن التضليل.

 

لكن ما يجعل الشائعات أكثر خطورة ليس مجرد انتشارها، بل صمت الجهات المسؤولة أو تأخرها في التعامل معها، فتُترك الساحة فارغة أمام التفسيرات والتأويلات، حتى تتحول المعلومة الزائفة إلى "حقيقة" في أذهان الناس. وهنا، لا يمكن إلقاء اللوم كله على الأفراد الذين يتناقلون الأخبار دون تمحيص، بل على الفراغ الإعلامي الذي يسمح لمثل هذه الظواهر أن تزدهر.

الشائعة.. كائن يتلون حسب الزمان والمكان.

 

لم تكن الشائعات يوماً مجرد أخبار كاذبة تتناقلها الألسن، بل هي ظاهرة قديمة قِدَمَ البشرية نفسها، تتكيف مع كل عصر، تماماً كما يتحور الفيروس ليقاوم العلاجات المتاحة. وإذا كانت الشائعات قديماً تحتاج إلى قوافل التجار وحلقات الحكواتيين لتنتشر، فإنها اليوم لا تحتاج سوى نقرة زر على شاشة هاتف، لتتحول في لحظات إلى "حقيقة مزيفة" يصدّقها الآلاف، بل وربما تتخذ بناءً عليها قرارات مصيرية.

 

في العراق، كما في غيره من الدول التي تعيش في ظل أزمات سياسية واقتصادية متلاحقة، أصبحت الشائعات جزءاً من المشهد اليومي، تتسلل إلى المنتديات والمقاهي، وتنتشر في سيارات الأجرة، وتتردد على ألسنة العامة وكأنها مسلّمات لا تقبل التشكيك. ومع اقتراب الانتخابات، تزداد حدّة هذه الظاهرة، وتصبح أكثر خطورة، إذ تُستخدم كأداةٍ لتشويه الخصوم، أو لصناعة أبطال وهميين، أو حتى لإرباك الناخبين ودفعهم إلى اتخاذ قرارات غير مدروسة.

 

مَن يطلق الشائعات؟ وأيُّ الأيدي تحركها؟

قد تبدو بعض الشائعات عفوية، تُولد من مخاوف الناس وهواجسهم، لكنها في كثير من الأحيان تكون جزءاً من لعبة أكبر، تُدار بذكاء، وتهدف إلى تحقيق مصالح محددة.

 

شائعات مدفوعة الأجر: تقف وراءها جهاتٌ سياسيةٌ تحاول توجيه الرأي العام، سواء لرفع أسهم مرشح معين أو لضرب خصومه.

 

حرب نفسية مدروسة: تُستخدم فيها الشائعات كسلاح غير تقليدي لخلق الفوضى وزعزعة الاستقرار.

 

شائعات اقتصادية تُحرك الأسواق: مثل تلك التي تتحدث عن انهيار العملة أو ارتفاع الأسعار، مما يدفع المواطنين إلى قرارات مالية غير محسوبة، تؤدي بدورها إلى أزمات حقيقية.

 

شائعات اجتماعية تهدم الثقة: كإطلاق أخبار عن فساد غير موثّق، أو مؤامرات خفية، مما يخلق جداراً من الشك بين المواطن والدولة.

 

تكمن خطورة هذه الشائعات في أنها لا تبقى حبيسة منصات التواصل الاجتماعي، بل تمتد إلى الحياة الواقعية، فتُحدث خللًا في البنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وتُعيد تشكيل المزاج العام بطرق يصعب التنبؤ بتبعاتها.

 

كيف تسهم المؤسسات الرسمية في تأجيج الأزمة؟

 

الإعلام، الذي يُفترض أن يكون حصناً منيعاً ضد التضليل، يتحول في بعض الأحيان إلى أداة تساهم في تفشي الشائعات، إما بدافع الإثارة وجذب الجمهور، أو بسبب ضعف المهنية في التحقق من الأخبار. ولكن الخطر الأكبر يكمن حين يكون الصمت الرسمي هو الاستراتيجية المتبعة، فيُترك المجال مفتوحاً للتأويلات والتفسيرات.

 

من هنا، فإن المسؤولية لا تقع فقط على عاتق وسائل الإعلام، بل على الجهات الحكومية التي يُفترض أن تكون المصدر الأول للمعلومة، لا أن تظل في موقع رد الفعل، تنتظر حتى تستفحل الشائعة قبل أن تتحرك.

 

كيف نتصدى لطوفان الشائعات؟

 

لا يمكن وقف الشائعات تماماً، لكنها يمكن أن تُواجه بوعي جمعي، وباستراتيجيات متكاملة تجمع بين دور الدولة والإعلام والمجتمع المدني والمواطن نفسه.

 

1. الشفافية هي السلاح الأول

 

كلما ازدادت مساحة الغموض، نَمَت الشائعات ووجدت طريقها إلى عقول الناس. لذا، فإن الحل الأول لمواجهتها هو تعزيز الشفافية، عبر تقديم المعلومات الدقيقة في وقتها، ومنع أي فراغ يمكن أن يُملأ بالأكاذيب.

 

2. الإعلام المسؤول هو خط الدفاع الثاني

 

يجب على وسائل الإعلام أن تتحلى بالمهنية والمسؤولية، وأن لا تكون مجرد ناقل للشائعات، بل يجب أن تكون عامل تصحيح، يفضح الأخبار الكاذبة ويقدم الحقائق مدعومة بالأدلة والبراهين.

 

3. سرعة الرد الرسمي.

 

الشائعة تنتشر كالنار، وكلما تأخر الرد الرسمي، ترسخت أكثر في عقول الناس. لذا، فإن وجود فرق إعلامية متخصصة في الرد السريع وتوضيح الحقائق بات ضرورة لا غنى عنها في هذا العصر.

 

4. التثقيف الإعلامي للجمهور.

 

على المواطن نفسه أن يكون جزءاً من الحل، لا جزءاً من المشكلة. يجب تعزيز الوعي الإعلامي، وتعليم الناس كيفية التحقق من المعلومات قبل نشرها، وعدم الانجرار وراء العناوين المثيرة والمعلومات غير الموثوقة.

 

الشائعات.. جزء من حرب عالمية خفية.

 

ما يحدث اليوم ليس معزولًا عن سياق عالمي أوسع، فهناك قوى تدرك أن السيطرة على العقول لا تقل أهمية عن السيطرة على الأرض. الباحثة فرانسيس ستونر سوندرز، في كتابها الشهير "من الذي دفع للزمّار؟ الحرب الباردة الثقافية", وثّقت كيف أن بعض الدول استخدمت الإعلام والثقافة كأدوات للسيطرة الناعمة، عبر نشر التفاهة، وإضعاف القيم الفكرية، وإلهاء الشعوب بقضايا سطحية، مما يجعلها أكثر قابلية للانقياد والتأثر بالدعاية الموجهة.

 

هل يمكن الانتصار في هذه المعركة؟

 

المعركة ضد الشائعات ليست معركة يوم أو يومين، بل هي معركة دائمة، تتطلب وعياً مستمراً، وإعلاماً مسؤولًا، وحكومة تتبنى سياسة الشفافية، ومواطناً قادراً على الفرز بين الحقيقة والوهم.

 

إن أكبر خطر يواجه المجتمعات اليوم ليس فقط في انتشار الشائعات، بل في أن تتحول الأكاذيب إلى مسلّمات، وأن يفقد الناس قدرتهم على التمييز بين ما هو حقيقي وما هو زائف.

 

وفي النهاية، تبقى الحقيقة كالشمس، قد يحجبها الضباب مؤقتاً، لكنها لا تلبث أن تظهر، ساطعة، مبددة كل ظلام.


تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

المقالات الأكثر زيارة