كتاب واراء

ذكرياتٌ وهجرة ; بقلم المهندس باسل قس نصر الله مستشار مفتي سورية

كنّا نَسكنُ في اللاذقية، وكنتُ أدرس في حلب أنا وأخي سامر، لأن والدي كان يعتقد أن عمله في اللاذقية لن يتجاوز السنة ولأجل ذلك لم يكن يريدنا أن ننتقل ثم نعودُ من جديد إلى حلب.

وفي الصيف - خلال العطلة الصيفية - كانت عملية الإنتقال إلى اللاذقية وتتخللها أسابيعٌ في "كَسَب" تلك المنطقة الجبلية التي كان الحلبيون يُصيّفون فيها، وقد ساهَمتْ كلٌّ من "اللاذقية" و "كَسَب" بإضافاتٍ جديدة من صداقاتٍ وذكرياتٍ وأحلام.

هذه الذكريات التي تُعَشِشُ في تلافيفِ دماغي، وتعود بين الفَينةِ والأخرى، لم تغادرَ عقلي وذكرياتي والأهم أنها لم تغادر روحي.

هذه الذكريات من بحر اللاذقية، وجبال كسب، وأصدقاء الحارة، والكرة التي كُنا نلعب بها، والبلح الذي أكلناه من النخلة التي كانت في أرضٍ أمام المنزل ... ما زالت في مخيلتي.

كل طفولتي التي اختزنتها في ذكرياتي، يريدون أن أتركها.

هل أنسَى كنيسة الروم الكاثوليك وسكن كهنتها الذين استأجروه من مسلم حقيقي هو د. مختار علواني، والذي كنتُ ألعب مع أولاده فيها؟

هل أنسَى برنامج الأعياد، حيث نذهب - كل أطفال الحارة - إلى دور السينما ونأكل الفول من عرباتٍ تصطفُ أمامها؟

هل تريدون أن أنسى برشانة البوظة - أختارها ملونة أي فواكه - عند محل "جعارة"، أو النابلسية من عند "مجنون ليلى"؟

كيف أهاجر وأنا أتذكر كل مراكب الصيادين المتوقفة في خليجٍ صغيرٍ جداً قرب مقهى "العصافيري".

مَنْ مثلُ أبي إميل سَيشتري الكعك لي ولأخي سامر من عربةِ بائعٍ يقف دائماً وكأنه من ثوابتِ الكورنيش؟

ذكرياتٌ وأسماءُ أطفالٍ وأماكن كلها تموج في عقلي، فمن عائلة علواني وشناتا وروميّة وفرحات والزين وأرملة وعنّاب والكثير الكثير غيرها، وكلها لي ذكريات معها.

من يعطيني شاطئاً مثل مسبح "أفاميا" وسهرات المساء في "شاليهاتها"، وأحاديث وقصص أصحابِها التي كنتُ أخزّنها في ذاكرتي. 

حتى الآن لم تُمح من ذاكرتي رائحة الشواء في المسبح، ولا مياه الأدواش الموزعة على الشاطئ.

تركوا ذكرياتهم والكتابات على حيطان منازلهم، وحنفيات الماء في مدارسهم، وضحكاتهم وهم صغار.

هاجروا وتركوا تراب سورية وأبجديتها وأرصِفتِها ومزاريبِ أبنيتها.

قلتُ وأكرر أن شوارع مدينتي تَعرفني، باعتها و عربات خضارها تَعرفني، عمالُ نظافتها وشحاذوها يعرفونني.

هل اترك رائحة أمي ونظّارات أبي وطيبة خالاتي، والأمور الأخرى التي لن يفهمها من يريدني أن أهاجر؟

قد لا تكون سورية أجمل البلدان ولكنها سوريتي وأنا أعشقها.

اللهم اشهد اني بلّغت

 


تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد