( الحلقة الرابعة والأخيرة " 4 من 4 " )
- 14 -
إنّ القضاء على مقدّمات الأزمة قبل أن تولد ، مرتبط بالقضاء على أسبابها المحتملة و هو ما يُسمّى في علم الإدارة " الوقاية " النّوعيّة من اتّجاهات سير العمل في النّتائج الهزيلة أو غير المرغوبة أو التي يتّضح أنّها تشكّل خطراً في نتائجها الممكنة .
تتّبع هذه "النّظريّة" حكمة هنديّة تقول : " إذا رأيتَ حجراً في دربك ، فأزله و لا تنتظر حتّى تتعثّر به " ؛ و نضيف ، نحن ، إلى هذه الحكمة : "حتّى لا يتعثّر به غيرك ، أيضاً " .
من الواضح أنّ تطبيق هذه النّظريّة ، إنّما يبدأ بالنّقد و بالاستماع إلى النّقد و بتقبّل النّقد من قبل المرجعيّات الهرميّة الأعلى ، عندما يُشير النّقد ، بخاصّة ، إلى مشكلة وشيكة الحلول أو مشكلات متعدّدة ..
و ترتبط هذه الاستراتيجيّة الوقائيّة بما يعرف في التّقنيّات الإداريّة بالتّحليل الوقائيّ للأزمات ، و توفير قاعدة بيانات خاصّة بالتّحليل المعاصر للأزمات ، تشكّل مرجعيّة علميّة و واقعيّة متراكمة تجعل منها علماً عمليّاً في إدارة الأزمات التي قضت الظّروف المختلفة التّعرّض لها ..
حيث لا يكفي ، في مثل هذه الحالات ، النّقد السّلبيّ ، بل تتعدّاه الحاجة إلى المعالجة و وضع الحلول و اقتراح الاستراتيجيّات .
- 15 -
يظهر في هذا المستوى من الحديث ذلك الدّور الذي يؤدّيه القادة الإداريّون و السّياسيّون في مواجهة الحالات الاستثنائيّة من الحياة العامّة ، و بخاصّة في الظّروف الاستثنائيّة المعروفة ، بالقرارت الاستثنائيّة ، أيضاً ، و التي ترتفع إلى مستوى التّجرّد الشّخصيّ أو الخاصّ و العاطفيّ ، بتجاوز لتلك العلاقات " المنطقيّة " التي غالباً ما كانت تخفي وراءها ضعفها الخاصّ المرتبط باختلاط النّزعة الشّخصيّة ، و أيّاً كان مضمونها .. بظروف القرار القياديّ .
يتطلّب القرار القياديّ ، أوّلاً ، وضع الاستراتيجيّات البديلة ، عندما تثبت الظّاهرة أو مجمل الظّواهر ، فشل إمكانيّة معالجتها وفق استراتيجيّات معمول بها أو مجرّبة ؛ ليتحوّل الاهتمام ، في ما بعد ، إلى توفير جملة " العوامل " و " الموارد " ، ما أمكن ، لتنفيذ تلك الاستراتيجيّات البديلة .
يظهر في هذا السّياق ، أيضاً ، أمر على قدر كبير من الأهمّيّة ، و هو أنّنا ليس علينا أن ننتظر نتائج مختلفة لتنفيذ استراتيجيّات بديلة بواسطة الكادر الذي كان يعمل وفق الاستراتيجيّات السّابقة و المتعثرة ..
إذ أنّ كثيراً من مشكلات و سياسات العمل التّنفيذيّ تتعلّق بآليّات التّنفيذ و وجهة النّظر المتراكمة في عادات التّنفيذ ، التي لا يمكن التّخلّص منها بالسّهولة التي يتصوّرها البعض .
إنّ تحقيق الأهداف البديلة لا يمكن أن يكون ممكناً من دون أدوات و قوى و وسائل و طاقات بديلة في المراكز و المفاصل الأساسيّة في بوتقة اتّخاذ " القرار " بما هو هذا " القرار " نتيجة علميّة يعرفها أولئك الذين خضعوا لعلوم " اتّخاذ القرار " التي تدرّس ، باستقلاليّة ، و مناهج نوعيّة ، و عندنا في (سورية) ، أيضاً .
- 16 -
إنّ "الدّولة" ، أو "النّظام" ، هي ظاهرة بلا ضفاف ، لأنّها لم تبدأ بقانون و لكنّها ، و للضّرورة ، هي من اخترع القانون ..
و النّتيجة المباشرة لكون الدّولة واقعة أو ظاهرة بلا ضفاف ، هي أن تبقى تعمل وفق هذه الحدّيّة المنفتحة ، و أعني عدم التّحديد ؛ و هذا لا يعني بالتّأكيد عدم "المحدوديّة" ، و إنّما أريد منه أن أبين خطر "التّحديد" في التّقليد السّياسيّ لممارسات الدّولة في النّظام .
إنّ ثبات تقاليد الدّولة " العميقة " لا يعني ، أبداً ، محدوديّة هذه التّقاليد و جمودها ، بقدر ما يعني استعداد الدّولة ، سياسيّاً و تنظيميّاً ، للتّضحية بالكثير و بالكثيرين ، للدّفاع عن فكرتها بوصفها " الدّولة " و " النّظام " و " الدّيمومة " و " العدالة " ، من أجل تلك " التّقاليد " و التي لا تعني هنا " التّكرار " بقدر ما تعني " الشّخصيّة " الثّابتة للدّولة في الاعتبارات المتقلّبة في مختلف الظّروف .
إنّ هذه المسألة الحسّاسة لا تخضع إلّا للفهوم الدّقيقة ، تلك التي تدرك أنّ ثمّة شيئاً مستداماً يجري في " عروق الدّولة " ، و هو شيءٌ ٥ير ظاهر على الأغلب ، و لكنّه فاعلٌ بدأب و انتظام ..
و هو " فكرة الدّولة " عن نفسها كدولة ، و عدم ترحيل أو تأجيل المسؤوليّات الجسام التي تتطلّبها ديمومة الدّولة في " الفكرة " .
هذا أمرٌ أشدّ أهمّيّة ممّا يبدو عليه ، في النّظرة الأولى أو السّريعة ؛ فهو يرتبط مباشرة ، و أوّلاً ، بموقف الأفراد و الجماعات و االقوى و المؤسّسات بالذّات ، نحو الدّولة كفكرة و شخصيّة اعتبارية قائمة بذاتها لا يمكن لأحد تجاوزها بهذه البساطة التي نستعرضها ، أمامنا ، في الظّروف التي يجري فيها الاستهتار المتعمّد و المقصود و المخطّط و المنظّم .
- 17 -
يكاد أن يورد المرء أمثلة كثيرة و بليغة على هذا "الاستهتار" المبرمج الذي تمارسه قوى و أفراد في الدّولة و النّظام و المؤسّسات العامّة في (سورية) ، و لكنّ مجرى الحديث لا يتّسق ، بعمقِهِ ، و بمسؤوليّته السّياسيّة التّاريخيّة ، مع التّشخيص و التّمثيل الذي يؤدّي كلّ منهما ، هنا ، إلى الاستخفاف بالاستراتيجيّات .
من المقصود أن نتوجّه ، هنا ، إلى ربط نتائج هذا الحديث ، بمسألة اعتباريّة قصوى ، و هي "هيبة" الدّولة و "مَضَاءُ" النّظام ؛ و هذا هو الجزء الجوهريّ في "فكرة" الدّولة ، بالذّات .
يتيح لنا هذا الشّرح أن نقول إنّ صورة الدّولة المعاصرة ، بما هي ظاهرة تاريخيّة اجتماعيّة و سياسيّة و اقتصاديّة ، لا يمكن استيضاحها المعاصر من دون أن يعمل و يفكّر ، القادة و الساسة و أصحاب القرار ، في ضوء أنّ الصّراع التّاريخيّ قد تعقّد ، اليوم ، كثيراً ، من حيث أنّه كصراع "طبقيّ" أو "فئويّ" أو "فكريّ" .. إلخ ؛ لا يمكن أن يُحدّد إلّا في " المشاريع التّنظيميّة " المتجاذبة على " السّلطة " و " الشّرعيّة " و " السّيادة " ..
و بهذا علينا أن نتفهّم ، عمليّاً ، كيف أنّ للتجاءب "التّنظيميّ" - و أعني حتّى التجاذبات في "الدّولة" الواحدة و "النّظام" الواحد ، و لكنْ في أشكال متغايرة و متباينة - إنّما هو مرتبط مباشرة ب :
○ " المادّة التّاريخيّة " بوصفها منهلاً للثقافات و القناعات و العنف ، و
○ " المادّة الاجتماعيّة " بوصفها مجموعة جُمَلٍ و علاقات منقسمة عموديّاً ، و
○ " المادّة العلميّة " المعاصرة بوصفها أدوات و خبرات يجري استخدامها في الخطابات المتناقضة و التي " توحي " ( و توحي ، فقط ) جميعها بأهداف عمليّة و تنظيميّة واحدة .
- 18 -
إذ أنّه حتّى الاقتصاد ، ناهيك عن السّياسة و الاجتماع ، إنّما هو " مادّة أيديولوجيّة " ، أيضاً .. على عكس ما " يتغرغر " البعض ..
إنّ " النّظرة السّياسيّة " إلى " الأزمة " ، و بخاصّة عندما تتّخذ هيئة " المبيان السّياسيّ " ، لا يمكن لها أن تكون على الحياد ، بإثبات أنّ " الأزمة " ، نفسها ، ليست مكوَّناً حياديّاً ، بقدر ما هي فعل مقصود .
إنّ كلّ حيادٍ هو نفاق تاريخيّ ، في السّلم و الحرب ؛ ذلك لأنّ " الحياة " بطبعها منقسمة في المكان و الزّمان في الأرض ، و بخاصّة عندما تدخل هذه " الحياة " الوضع العمليّ المرتبط بأهدافه المختلفة و المنقسمة و المتباينة ، بقدر ما هي " الحياة " ، نفسها ، تسمح بهذا " التّنوّع " في الوجود و الصّراع .
يبقى أن نخفّف عن أولئك المتشائمين التّاريخيين ، من حيث نظرتهم إلى " الواقع " الذي لا يمكن تغييره برأيهم ، و لو كانت الانطلاقة ، طبعاً على أن تكون .. من واقع تجربة " التّنمية المستحيلة " و التي أخذت في التّعبير طابع " المجاز " ..
و في الوقت نفسه أن نشير إلى تفاؤل عمليّ في إمكانيّة أن يكون " الخطاب " السّياسيّ – الفلسفيّ ، مقدّمة للحلول التّاريخيّة المسؤولة ؛ و ذلك بواسطة " قانون التّراكم " ، نفسه ، الذي يُريح المروءة من تجشّم عناء وَهْمِ الاستحالة و التّعذّر ، من جهة أنّه قانونٌ فاعل من وجه أنّ أكبر الحلول الاجتماعيّة و الاقتصاديّة و السّياسيّة ، إنّما تبدأ كما الغيث الذي تفتتحه القطرة الواحدة الأولى التي تُسارع بالتّكاثر و الاتّساع و العموم ..