مقالات خاصة

[ نظرةٌ سياسيّة في مفهوم ( إدارة الأزمة ) ]《 اختناق المؤسّسات .. و التّردّي الإداريّ 》بقلم د.بهجت سليمان

 

                                ( الحلقة الأولى " 1 من 4 " )

                                                                                    

                                      - 1 - 

     أنهت الحرب التي لا زالت قائمة على سورية ، عصراً طويلاً من الصّيغة الاجتماعيّة و السّياسيّة الخلّبيّة التي كان عنوانها الضبابية الشّاملة إزاء قضايا عامّة تتّصلُ بالسّياسة اتّصالاً مباشِراً ، و تتعدّاها في البنية التّحتيّة إلى مسائل متّصلة أكثر "بالشّأن العامّ" و "الثّقافة السّياسيّة" ، و "المواطنة" و "الهويّة" و "الانتماء" .
     و كما هو واضح ، تغطّي هذه المصطلحات مصالح بشريّة واسعة تتعلّق بالعمل و الأخلاق و النّشاط ، و العلاقات النّاجمة عن هذه "المحدّدات" التي تجد لها انعكاساتها العمليّة المباشرة في "المؤسّسة" و "النّظام" .
     ربّما كان مفهوم "التّنمية المستحيلة" ، بعمومه ، يختصر أشياء جوهريّة من التّعبير الاجتماعيّ ، بواسطة تلك "البنى" المختلفة التي تجد ترجمتها المباشرة و الحدّيّة في "المؤسّسات" العامّة التي كان يتردّد فيها "النّظام العامّ" ، نتيجة لأسباب سوف نتناولها في هذا الحديث ، و قد أسفرت في سلوكات و اقتصادات الحرب ، العامّة ، عن وجه من الصّفات و الآثار التّخريبيّة القصديّة و غير القصديّة ، و لكنّها التي تختزن ، في داخلها وبين جنباتها ، موقفاً ثقافيّاً عدائيّاً من "المؤسّسة" و "النّظام السياسي" ، و قد تحوّل إلى انفجارات تدميريّة في جسد "الدّولة" و في جسد "المجتمع" .

                                     - 2 - 

     ربّما يحتاج الكثيرون ، المهتمّون ، إلى المزيد من التّأمّل و الدّراسة و الفهم المتحرّر و المنفتح ، ليدركوا أن قسطاً جوهريّاً من الأزمة التي لازمت الحرب على سورية ، إنّما كان ، وفق المقدّمات المتراكمة الكثيرة ، أزمة تردّد تنمويّ عميق ، من جانب ، فيما كان تخريباً منظّماً ، محلّيّاً و إقليميّاً و دوليّاً ، من جانب آخر .
     و بغضّ النّظر عن الكيفيّات المقصودة في كلا السّلوكين ، حيث أصبحت كيفيّات شهيرة و معروفة لدى الفئات الواسعة من المراقبين و المتابعين ؛ فإنّ الهيكليّة العامّة للنّتائج النّاجمة عن ذلك ، إنّما كانت قد تظاهرت في مقدّمات عضويّة من "اختناق المؤسّسة" العامّة ، اختناقاً إنتاجيّاً و إداريّاً و أدائيّاً ، بحيث كان "النّظام العامّ" ، الرّسميّ ، في وجهه "القياديّ" و "الإداريّ" ، نظاماً من أنظمة "الحدّ الأدنى" في الوظيفة العامّة للدّولة ؛ فيما كان المستفيدون من هذا الواقع ، بما فيهم صانعوه ، يتستّرون على هذه "الحقيقة" .
     و هذا على رغم بعض الأصوات الخبيرة و القانونيّة و الجريئة و النّقديّة ، التي كانت تغامر بذاتها فتحلّل و تنتقد و تشير إلى المشكلة و تحذّر منها ، فكان يجري إسكاتها و إبعادها و قمعها بطرائق مباشرة أو غير مباشرة ، خلافا لكلّ قانون و نظام وعلى حساب المصلحة العليا للدولة .. 
     و يُشيع المجرمون من أذناب المحور الصهيو - أميركي وببادقه ، من جانب آخر ، وجهاً مزيّفاً من الحقائق و النّتائج الكاذبة و المشوّهة في عمقها ، بالإضافة إلى سلوكهم سلوك الضرورات التي تكتمل في إطارها "الدّائرة" الكاملة من عصابات بعض "المؤسّسات" الحكوميّة ، لحمايات متبادلة ، كما جرى ويجري ، حتى اليوم ، و لكنّه معلّل ، نظريّاً ، بنتائج و آثار هذه الحرب ، على مختلف ما ينصرف إليه التّعليل و التّفسير !

                                    - 3 - 

     إنّ حالة "اختناق المؤسّسة" أو "المؤسّسة المخنوقة" ، تفهم بوجهين على الأقلّ : 

الوجه الأوّل ، و هو الحالة التي عجزت فيها "المؤسّسة" عن تحقيق غاياتها وفق "قواعد الأداء" العاديّة و اليوميّة ، و التي تختلف عن المطروح في الثّرثرات الأكاديميّة التّقليديّة لدراسات "معايير الأداء" ، حيث أن هذه الأخيرة تفترض أن "العمل" أو "الإنتاج" أو "الأداء" ، يُمارسُ في بيئةِ عمل نموذجيّة أخلاقيّاً و علميّاً ، و لا تأخذ بعين الاعتبار "التّسرّب" الكبير لقيم العمل أثناء الممارسة الإداريّة أو العمليّة الاقتصاديّة بدوافعها الاجتماعيّة المؤطِّرة لقواعد السّلوك .

     و يمكن القول في "قواعد الأداء" ، إنّها تلك "القواعد" المحفّزة للعمل الذّاتيّ ، بمعزل عن "الحوافز المادّيّة" ، الإداريّة أو الإنتاجيّة ؛ و تتمحور القواعد من النّوع الأوّل حول النّسبة التّقريبيّة للإنتاج المادّيّ أو الإداريّ و تناسبه مع عدد العاملين و ساعات العمل و أهداف و غايات العمل ..
     و هذا النّوع من الأداء ليس له معايير في المقاييس الرّقابيّة الإنتاجيّة و الأدائيّة في "الهيئة المركزيّة للرّقابة و التّفتيش" ، أو "في الجهاز المركزيّ للرّقابة الماليّة" ، في (سورية) ، الجهتين المخوّلتين وفق أنظمتهما الدّاخليّة و مهامّهما التّأسيسيّة لممارسة الرّقابة على أعمال الحكومة ..
     و ينجم عن هذا الوجه من "الاختناق المؤسّسيّ" اضمحلالٌ في كمّ الأداء و نوعيّته و تسرّبٌ زمنيّ في وقت العمل نحو الاهتمامات الخارجة عن العمل المحدّد للمؤسّسة أو المنشأة ، و بالتّالي تزعزع لقيم الإدارة و الإنتاج الخاصّة بكلّ حالة من حالات القيم العمليّة المرتبطة بالبنية النّوعيّة للعمل ..
     كما يرافق ذلك استهلاك مباشر للأجر المدفوع للعامل في غايات منفصلة عن العمل ، و ربّما تتعارض معه على نحو من الأنحاء ..
و هذا ما ينعكس على "معدّل النّموّ" الخاصّ المرتبط ، في المحصّلة ، بعمليّة التّنمية في هذا المفصل الحكوميّ أو ذاك .
     و عندما يتمّ احتساب القيمة الكلّيّة ، الكمّيّة و النّوعيّة ، لهذا "الضّياع" أو "الفقدان" ، تنجلي أمامنا صورة مفزعة للتّسيّب الحكوميّ في أداء العمل الاقتصاديّ و الإداريّ ، ما ينعكس انكماشاًفي البنية الهيكليّة للعمل ، و بالتّالي ، "اختناقاً" في المراحل المتوالية لخط الغايات المخطّطة ، افتراضيّاً ، لإنجازها وفق غايات العمل و التّأسيس . 

                                  - 4 - 

 و أمّا الوجه ، الثاني ، الآخر ، لاختناق المؤسّسة ، فهو في السّلبيّة الموضوعيّة النّاجمة عن احتلال " العامل - الموظف العاطل عن العمل الفعلي " في خط الاقتصاد المختنق ، لفرصة عمل يحتاجها شخص عاطل أو معطل عن العمل مقابل ذلك العامل - الموظف ، ما يُفضي إلى احتكاريّة و تهميش متناقضيّ الاتّجاه ، و هو ما يؤدّي إلى تهميش احتمالات تطوّر المؤسّسة عبر الزّمن و تلبيتها للحاجات الاجتماعيّة و الاقتصاديّة و الإداريّة ، و بالتّالي فقدان المصلحة العامّة و انتقاصها من عمليّة "التّنمية" .

     يرافق الحالات المرسومة على نحو ما تقدّم تحدّيات أخرى ، يمكن إحصاؤها بناءً على تقدير أو تقنين كيفيّات الزّمن و كمّيّاته ، المسروق من القيمة التّبادليّة في "الأجر" المصروف ، و معرفة و تحديد أين وعلى أيّ من الأوجه السّلبيّة تسخّر تلك المدفوعيّة العامّة ، الحكوميّة ..
     و تحقيقاً لأيّ نوع من الأهداف و الغايات الخاصّة ، هذه التي قد تصل حتّى التّآمر على "الدّولة" التي تدفع أجر هذا "التّآمر" ، أيضاً ، في الوقت ذاته .
      لا تُنفّذ أو تمارس منظومة للعمل العام ما لم تكن في جو من الانتماء الوطنيّ الذي يُقاسُ بأخلاقيّات الإدارة و الإنتاج و أخلاقيّات السّياسات العامّة في "النّظام" و "الحكومة" ، بما هي تتعرّض في هذه الحالات لما نسمّيه في التّحليل الاقتصاديّ - الماليّ القوميّ بِ"ضعف كفاءة الإنفاق" ، أو "تقلّص المردوديّة" و "انكماش قيمة العائدات" .. و كلّها مصطلحات اقتصاديّة و ماليّة تعبّر عن تدنّي شروط بيئة العمل بشكلٍ حادّ ..
     و نحن ، هنا ، بالضّبط ، علينا أن نفتّش عن الإخلاص في الانتماء للوطن ، و الولاء الحقيقي للقيم السّياسيّة الوطنيّة ولقائد الوطن ، والأداء الجدي و الأخلاقي والمجدي .
     عوضا عن القيام باستعراضات إعلامية لبعض الوزارات التي بات واضحا أنها تشكل عبئا على آلية الأداء ، عندما تختبئ وراء عناوين إصلاح إداري ، بينما هي في الحقيقة تقطع الطريق على أي إصلاح إداري حقيقي ، وتكبح مبادرات الوزارات الأخرى في القيام بواجبها من خلال الارتقاء إلى مستوى التحديات المعقدة التي تواجهها . 

                                     - 5 -

     يعمل الفكر الاقتصاديّ الّليبيراليّ التّقليديّ ، الخاصّ ، في مثل هذه الحالات ، على "سياسات تحريريّة" للاقتصاد و الأسواق ، ظنّاً منه أنّ ذلك يُعالج الحالة هذه تبعاً لما يُسمّى "التّرميم الذّاتيّ" للنّظام أو للسّوق ..
     و لكنّ ما يفوت "سياسات التّحرير" ، هذه ، هو أنّ المنافسة التي هي مسؤولة عن تسوية الأوضاع الاقتصاديّة و الماليّة المتناقضة أو البطيئة أو المنكمشة ، إنّما هي محدودة في "المؤسّسة" الحكوميّة و طبيعتها في توزيع الفرص على الجميع ..
      وعندما يتّجه "السّوق" إلى "التّحرّر" ، يرتفع منسوب "الاختناق" المؤسّسيّ ، لأنّ ما ينعكس من "السّوق" المتحرّر ، في المنافسة ، يُنتج إجحافات متزايدة بحقّ ذوي الدّخل الحكوميّ غير المحرّر ، في ظلّ دخولٍ عامّة و مرتّبات ماليّة و أجور عامّة محدودة بسقوف نهائيّة ، تبعاً لطبيعة "النّظام التّشغيليّ" العام المرتبط بالمؤسّسة الحكوميّة .
و هذا أحد أسرار فشل "السّياسات التّحريريّة" في بنية عامّة إداريّة و اقتصاديّة ، هي من "مخلّفات" التسيب في المؤسّسات التّقليديّة ، في هيئات "القطاع العام" ..
      إنّ الذي يُطرح في هذه الحالة ، إنّما هو "المساءلة السّياسيّة" للحكومة حول فعّاليّاتها التّشريعيّة و التّنفيذيّة و الإداريّة .

                                                                       ● غدا ( الحلقة الثانية " 2 من 4 " )


تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد