مقالات خاصة

صفات الدولة المعاصرة.. و مواكبة العالم  بقلم :اللواء بهجت سليمان


         

                     (  الحلقة الثانية والأخيرة " 2 من 2 "  ) 

                                                                            


11▪ لا يوجد صنف من المجتمعات السّياسيّة أو الدّول هو أقرب أو أبعد ”لطبيعة مجتمع هو بأكثريّته متديّن” ، ذلك لأنّ الواقع يُكذّب هذه الحقيقة ..
     إذ أنّ ما يجعل مجتمعاً بعينه ”متديّناً” أكثر من ”مجتمع آخر” - كما يقال عندنا - ، إنّما هو أمر يعود إلى مجموعة من الأسباب التي إذا ما فحصناها لوجدناها ”أسباباً” كاذبة يغلب عليها النّفاق الاجتماعيّ أكثر ممّا يغلب عليها ”التّديّن” بإيمان .

12▪ و الأمثلة على ذلك كثيرة : فإمّا أن يكون الأمر يتعلّق بالشّعور السّاديّ بالتّفوّق العدديّ لدين على دين أو لطائفة على طائفة أو لمذهب على آخر ..

▪ و إمّا أن يكون الأمر تحقيقاً لمصالح اجتماعيّة و سياسيّة تتعلّق بالحكم و السّيطرة ..
▪ أو أن يتعلّق الأمر بالكراهيّة الدّينيّة التي تورّث تربويّاً و تعليميّاً و اجتماعيّاً ، حتّى أنّها تُمسي من صميم ”الدّين” الاجتماعيّ المزوّر و المزيّف و الكاذب .. إذ ما من ”دين” إلهيّ حقيقيّ يحضّ على كراهيّة ”الآخر” لمجرّد الاختلاف في ”الدّين” ..
▪ و إمّا أن يكون الأمر لفهم أخرق و أحمق و جاهل للنّصوص الدّينيّة ، و هذا استثناءٌ يُعمّم بالتوريث . .
▪ أو أن يكون السّبب ، و هذا هو الأعمّ و الأشمل ، هو احتكار الشّعور الدّينيّ الأكثريّ من قبل طبقة لاهوتيّة - سياسيّة تحرّض على الخلاف بسبب الاختلاف ، مستفيدة من واقع يؤهّلها للسّيادة و السّيطرة الاجتماعيّتين تحقيقاً لمكاسب سياسيّة و طبقيّة خالصة.

13▪ و أمّا عن ”الشّعور” المزيّف الذي يقترن بأنّ ”العلمانيّ” يعمل على سلب ”المتديّن” هويّته ، فهذا ”الهُراء” هو بالضّبط من اختراع رجال الكهنوت الّلاهوتيّ السّياسيّ ، الذين يحتقرون عقول ”عبيدهم” من ”العامّة” ، فيغسلون لهم أدمغتهم بتحريضهم على ”العلمانيّ” و ”العلمانيّة” ، ضماناً لاستمرار تسلّطهم الاجتماعيّ على عبيدهم و محتزبيهم ، كما ضماناً لاستمرار مواقعهم الطّبقيّة الاجتماعيّة و السّياسيّة و نفوذهم ”المدنيّ” .. بالتّحديد !

14▪ إنه لمن الواضح و المفهوم أنّه لا يمكن ”علمنة” دولة و السّير بمواطنيها نحو ”مجتمع سياسيّ” ( مدنيّ ) ، سواءٌ إذا كان مجتمعها متعدّد الأديان و المذاهب و الطّوائف ، أم لم يكن كذلك ..
بأن تنصّ في ”دستورها” أو في قوانينها أو في ”قراراتها الإداريّة” أو في أيّ نصّ سياديّ من نصوصها ، كدولة ، على ما يمكن أن يفسح مجالا لعدم تكريس وترسيخ المجتمع المدني والدولة العلمانية ..
     لأن ذلك يعمل على بثّ روح الفرقة و التّخندق و التّتخيم ما بين أبناء المجتمع الواحد ، بدلا من أن تقطع الطريق ، بحسبان الفعل و ردّ الفعل ، على جماعات و عصابات و عصب جاهزة للقتال في ساحات النّار عند أيّة شرارة يتقصّدها ”البعض” ، من أيّ من تلك ”الانفراقات” ، تحقيقاً لمآرب أو أهداف أو سيطرة أو شموليّة سياسيّة ..
     في الوقت التي ينازع العالم جميع ”الشّموليّات” السّياسيّة الحزبيّة في الدّول و الأمم و الشّعوب على واقعها ، هذا ، المتخلّف و الجاهل و الرّديء و العنيف !

15▪تبقى العلاقة الدّينيّة - الإيمانيّة شأناً شخصيّاً خالصاً ، بالمطلق ، بين ”العابد” و ”المعبود” ، هذا و لو كان المعبود حجراً أو صنماً أو وثناً أو كان إلهاً فوق الجميع !! 
     هذا و لا يجوز النّص ، من قريب أو من بعيد على تنظيم هذه العلاقة بين الله و الإنسان ، إذ أنّ هذه العلاقة هي من العلاقات الرّوحيّة و الوجدانيّة و الأخلاقيّة المطلقة .

16▪لا يمُكننا الحكم على ”تاريخيّة” العلمانيّة الفكريّة في تاريخنا العربيّ - الإسلاميّ ، إذ أنّه لم يسمح ظرف واحد سياسيّ باختبار هذه العلاقة بما فيها من حرّيّات ”دينيّة” و ”مدنيّة” ؛ و تاريخنا - كما كنّا قد أشرنا أعلاه - حافل بالتّهم السّياسيّة الدّينيّة بالزّندقة و الكفر و المروق و تحليل الحرام و تحريم الحلال و التّجديف بحقّ الخالق و النّكران الدّينيّ و الإباحيّة الأخلاقيّة .. إلخ ، إلخ ؛ بحقّ كلّ مجتهد عقليّ تصدّى لمسألة فقهيّة أو تشريعيّة واقعيّة تُعنى بشؤون الدّنيا و الدّين ..
هذا على رغم ”الحضّ” القرآنيّ الإلهيّ الصّريح للمؤمنين على التّفكّر و التّعقّل و التّأمّل و إعمال أكرم ما منحه الله لبني آدم ، و أعني به العقل .

17▪ لا يحتمل أمر ”العقلانيّة” منطقة وسطى بقسمة رضائيّة بين ”المتزمّت” دينيّاً و بين ”العلمانيّ” ، ذلك أنّه تبيّن لنا ممّا قدّمناه ، حتّى الآن ، أنّه ما من تناقض بين ”التّديّن” و ”العلمانيّة” ، على اعتبار أن الدّولة العلمانيّة هي الدّولة الضّامنة لجميع مواطنيها ، بما في ذلك إيمانهم أو غير ذلك .
     و أمّا أمر استثمار تهمة الدّولة العلمانيّة بالدّولة المارقة أو الملحدة ، فهذا هو بالضّبط الجهل بعينه و عدم الإلمام بأبسط مضامين المصطلحات السّياسيّة المستخدمة في الفكر اليوميّ و العامّيّ المعاصر ، الذي صار من ممتلكات ، حتّى ، الأمّيّين !

18▪ نخلص إلى نتيجة بسيطة بساطة هذه الطّروحات و شيوعها ، مفادها أنّ المجتمعات العربية ، إذا أردنا الحقيقة ، بل و الحقّ ، إنّما هي ، باغلبيتها ، لا زالت مجتمعات ”قبليّة” ثأريّة متناحرة و متعصّبة و متزمّتة ، تعيش في ما قبل ”النّهضة” العالميّة التي قاربت أن تُمضي ألف سنة من الزّمان . .
     و ليس غريباً ، أبداً ، أن تبقى المجتمعات و الشعوب و الدول والأفراد ، محتّلّة الإرادة و العقل و القرار ، طالما أنّها لا تستطيع التّمييز بين الدّولة العلمانيّة و الدّولة الملحدة .. 
     فلا الدّولة لها دينٌ و ليس لها إيمان و ليست هي كافرة و ليست أيضاً مارقة ..
     ومن لا يدركون هذا الأمر ، سيبقون محتلّين واقعين تحت الإحتلال و ليسوا أحراراً ، أيّاً كان واقعهم ”السّياسيّ” .


تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد