كتاب واراء

في الإمبرياليّة و الإمبرياليّة المعاصرة ( " العولمة " بوصفها نظاماً في " الاغتراب " )

كتب  د . بهجت سليمان 


1_ نلجأ غالباً إلى " التاريخ " ، دراسة و استقاءً و مقارنة و متابعاتٍ ، ليس بسبب يقينيّته بالدّرجة الأولى ، و إنّما من أجل مقارنة فصول العالم في تعاقبات الزمان و تشابهها و تطوّرها السّببيّ المترابط و المتّسق و " المنطقيّ" غالباً ، و قراءة الحاضر على خلفيّة تساعد في تفسيره أو حتّى تتناقض معه تناقضاً كلّيّاً أو جزئيّاً ، أو بسبب الشّغف الإنسانيّ الطّبيعيّ بالأحداث الغابرة و التي مضى عليها ما يؤهّل من الوقت ليكون عبرة للمعاصرين.
ثمّة ، بالطّبيعة ، أسباب أخرى تدفعنا إلى اللجوء إلى العِظة التّاريخيّة ، و لا يمكن و لا بحال الإحاطة بجميع تلك الأسباب ، و لو أن من أبرزها ممّا لا يُسكت عليه ذلك السّبب المتعلّق بالطّمأنينة إلى حاضرنا من وجهه العمليّ بما يُمكننا فيه من قياسه على الماضي ، كتجربة بين أيدينا خلُصت إلى نتائجها التّامة أو شبه التّامّة ، و هي بذلك توفّر علينا بعض وحشة الحاضر و عيشه الضّروريّ الذي ليس له أفقٌ واضح نتّجه فيه إليه.

2_ يكاد هذا الأمر ينطبق على شتّى الأفكار، الاجتماعيّة و الاقتصاديّة و السّياسيّة ، و نظم السّياسات " الكلّيّة " ، العامّة ، ممّا هو من اهتمامات و مضامين الفكر التّاريخيّ في مختلف العصور و الظّروف ، و بما ينطبق ، كذلك ، على سبل تطوّر الأوضاع الدّوليّة و العالميّة و بخاصّة منها ما هو شموليّ أو أقرب إلى الشّموليّة ، بانطباقه المستمرّ و المتطوّر في تبادل العلل و الأحداث النّاجمة عنها في السّياسات العمليّة ، التي تعود في أصلها إلى أفكار فرضت نفسها بوجه أو بآخر على حياة البشريّة في تاريخها المعروف.

3_و ربّما يكون الواقع التّاريخيّ في هذا السّياق أحدَ المواقف الذّهنيّة التي تدفعنا إلى متابعة تطوّر " فكرة " واحدة نشأت مع نشوء التّجمّعات الأولى و السّلطات المحلّيّة التي انتهت إلى تشكّل " الدّولة " المعروفة في التّاريخ ، و ذلك بما حوى ماضيها على بذرة أو بذور عضويّة خصبة تطوّرت اليوم إلى أنظمة و منظومات شاملة و شموليّة ، على شكل الدّولة الحديثة أو المعاصرة ، أو إلى ما تجاوز ذلك ليشكّل سمة عالميّة من سمات العالم المعاصر .

4:_و نعتبر كلّاً من فكرة " الإمبرياليّة " المعاصرة ، و " العولمة " ، شكلاً معيناً من أشكال " الأنظمة " القديمة و البدائيّة التي رافقت نوى المجتمعات السّياسيّة الأولى و الدّول الجنينيّة في التّاريخ ، حتّى وصلت إلى ما وصلت إليه اليومَ من إتقانات للأسلوبيّة عالية التّطوّر ، و لو بمقاييسنا المستعملة في زمننا المعاصر ، و أيضاً ممّا استحوزت عليه من أدوات و تقنيّات شديدة التّركيز و الحرفانيّة كما نعاصرها في أيامنا هذه ، و هذا مع الاختلاف ، طبعاً ، بالدّرجة ، و حسب ، على اعتبار أنّ أدقّ و أخطر و أفظع ما في النّظام الإمبرياليّ المعاصر و في منظومة " العولمة " الحاضرة ، كلّاً منهما ، لم يُخلق بين عشيّة و ضحاها ، كما أنّه لم يتشكّلْ تشكّلاً مفاجئاً على مثال آخر صار ، بالتّدريج ، متطوّراً و مُحسَّناً ، أو لم يُنزَّلْ تنزيلاً من فراغٍ أو خلاء.

5_ و حسب ما يعود الأصل " الحديث " في مصطلح " الإمبرياليّة " إلى نشوء دول العالم الحديث و المعاصر ، من تحديده للمضمون في اتّساع السّلطة و التّوسّع الجغرافيّ المباشر و غير المباشر ، عن طريق الهيمنة و الاستعمار و الاستعمال الموسّع منذ بدايات الأنظمة الاقتصاديّة و السّياسيّة و الثّقافيّة الكولونياليّة ، مع " الإمبراطوريّات " الأكبر الحديثة المعروفة في تاريخ السّياسة العالميّ ؛ فإنّه يمكننا أن نتصوّر زمناً مغرقاً في القدم و النّشوء للإمبرياليّة ، بدأ مع أوّل التّوسّعات " الحيويّة " الأولى للاجتماع المنظّم بالسّياسة و الحاجة إلى فرض النّفوذ و القوّة و لو عن طريق العنف ، و هو الأمر الذي نستطيع معه قلب الكثير من المفاهيم المعاصرة حول الإمبرياليّة و نشوئها "الحديث" المرتبط بتطوّر الحاجات "الرّأسماليّة" ، التي اقترنت بالدّولة الحديثة و المعاصرة ، كإحدى "ضرورات" الاتّساع و الشّموليّة المرافقة للمجتمعات و الأفكار الحديثة ، حول " مركزيّة " القوّة ، أو القوى ، و حاجاتها " الحضاريّة " المبكّرة في النّشوء.

6_ و لعلّ في واقع التّفاوت الطّبقيّ المبكر في المجتمع الواحد و في الدّولة الواحدة ما يجعلنا نتلمّس أولى بذور " الإمبرياليّة " بوصفها تعبيراً عن ممارسة " القوّة " و " العنف " بشكل " موسّع " في التّعميم و الاشتمال و حتّى على صعيد العلاقات الاجتماعيّة – السّياسيّة ، ما بين الفئات الاجتماعيّة و الطّبقات في الدّولة الواحدة و المجتمع الواحد ، إلى أن أصبحت " الضّرورة " - و " الجشع " – تقتضي التّطلّع إلى " الخارج " الذي يتجاوز " الجغرافيا " المحدودة و الحدود السّياسيّة للكيانات النّاميّة في " الأفكار " المتعلّقة بالسّلطة و السّطوة و الاستئثار و الانتشار.


 7_:︎ نكتشف مع هذه الشّروحات الأوّليّة و البسيطة أنّ " الإمبرياليّة " ليست كما قالت عنها " الماركسيّة " – لينين – من أنّها " أعلى مراحل الرّأسماليّة " ، فقط ، و لكنّها نظام " شامل " للأفكار و السّياسة و الاقتصاد ، بحيث أنّه كان هو ، على التّحديد ، وراء إظهار الطّابع " الطّبقيّ " للعلاقات الاجتماعيّة في المجتمع الواحد و الدّولة الواحدة ، و ليس العكس الذي جاءت به الثّقافة المُعرّية للطّبقيّة الحديثة و المعاصرة ، كما توحي بذلك " الإنسانيّات " العالميّة التي ارتبطت بالحداثة على أقلّ تقدير.
إنّ المصالح الطّبقيّة و الدّينيّة و الأفكار و النّزوعات الفرديّة و الفئويّة و الطّبقيّة ، هي ما أملت على ظاهرة الإمبرياليّة انتشارها في الثّقافة و السّياسة و الاقتصاد و القوميّات و الدّول ، قبل أن تكتشف " الإمبرياليّة " ذاتها في النّظم و المنظومات العالميّة و الشّركات العابرة للحدود ، كما هو الأمر حاصلٌ بكلّ فظاظاته و استهتاراته الأخيرة اليوم.


و يمكننا بقليل من الملاحظة التّأكّد من هذه الفكرة ، بالنّظر المباشر إلى أقرب الصّور الاجتماعيّة و السّياسيّة و الماليّة ، اليومَ ، " حولنا " ، و انتهاءً بالعالم الشّاسع الكبير.

8_ و أمّا ما يُقال عن " العولمة " ، و هي النّظام السّياسيّ المعاصر في العلاقات الدّوليّة الطّارئة مؤخّراً على العالم ، فهو لا يعدو أن يكون مجرّد تنظيم و توزيع جديد للإمبرياليّة المعاصرة ، جوهره نظامٌ لإشاعة " المعلومات " و " التّقنيّات " المعلوماتيّة و الثّقافيّة من أجل تعميم و تعميق أكبر للنّظام الإمبرياليّ العالميّ نفسه ، و لكن في تكريسه الموحي بالواحديّة ، أو الواحديّ بالفعل ، في شموليّةٍ نوعيّة للاستهلاك و التّنميط البشريّ العالميّ ، و إعادة توزيع أسواق الاستهلاك العالميّة الجبريّة منها و القهريّة ، لكلّ منتجات الإمبرياليّة و على الأخصّ منها " الثّقافات " و الأفكار " الأخلاقيّة " و " الفلسفيّة " و " العواطف " و " الجنس " ، بما هي واقعيّة و فعليّة هذه " الإنجازات " ذات الاتّجاه المتطرّف و الحدّيّ ، و الحازم و الحاسم و المتفوّق ، و الإعلام و الأوبئة و الأمراض و الطّاقة و السّلاح و الحروب و الأزمات المختلفة ، و " الدّيون " و الأديان و المذاهب العاديَة و المتعادية ، و على الصّورة التي تخدم حكّام العالم من " مفكّرين " اقتصاديين و ماليين و هياكل و بنيات اقتصاديّة عالميّة ، و ساسة و سياسيين و " مثقّفين " اختصاصيين نوعيين ، و الذين لم يعودوا دولاً بقدر ما أصبحوا عبارة عن قوى و أدوار و وظائف دوليّة و عالميّة ، و فضائيّة ، أيضاً ، و " احتكارات " متنوّعة و " نوعيّة " ، عابرة للانتماء و المواطَنة و الشّعوب و الدّول و القوميّات..!

9_ و لا مانع ، في هذا السّياق ، من أن نُعيد النّظر في فهمنا للعولمة و للإمبرياليّة متخفّفين من الحمولات الأيديولوجيّة التي طبعت فهمّنا " التّقليديّ " لكلا المصطلحين ، بحيث يُمكننا ، أيضاً ، أن نضمّ إلى المضمونين مفاهيم جديدة مُلحّة و حالّة ، بحيث لا نُشيرُ ، خلال استعمالنا للمصطلحين ، إلى " ضمير غائب " أو فاعل لأفعال مبنيّة للمجهول أو للبعيد و الغريب ، و إنّما أن نكون على استعداد من أجل إدراج بنًى و قوًى و فئات و أشخاص و أفراد قريبين منّا و يعيشون بيننا ، على اعتبارنا لما قلناه على كلّ من " الإمبرياليّة " و " العولمة " ، كنظامين عالميين معاصرين جدّاً ، يطغيان على " تنظيم " عالمنا الواسع ، و لو أنّ اختصاص من هم بين ظهرانينا من " أطراف " يقتصر على الخضوع و الاستهلاك و السّلبيّة المفرطة و ردّ الفعل ، و لكنّهم ضروريّون من أجل استكمال صورة اغتراب الإنسان في " العالم"، في "المركز" و " الأطراف ".

10 لقد كان لحالة " الاغتراب " التي طبعت البشريّة منذ عهودها المعروفة الأولى ، أن شكّلت ، مبكّراً جدّاً ، في الأدبيّات الوجوديّة ، حالة من الاهتمام الذي تنامى مع " تطوّر " العالم باستمرار . و كثيرون يعرفون شيئاً أو أشياءً حول مفهوم " الاغتراب " الوجوديّ في الاجتماع و الاقتصاد و السّياسة و العمل و الأخلاق و الجَمال.
و إذا كان ثمّة إضافة معاصرة ، في ظلّ الإمبرياليّة المتطوّرة و العولمة السّاحقة ، على هذا " الاغتراب " كمفهوم عضويّ بالنّسبة إلى حالة الأفراد التّاريخيّة ، الطّبيعيّة و الاقتصاديّة و السّياسيّة ، بالنّسبة إلى الوجود و العمل و الأديان و الأخلاق ، و إلى كلّ انتماء آخر ، فهي تلك الإضافة المتعلّقة بالمجتمعات على نحو جماعيّ أو شبه جماعيّ.
لقد تجاوز اليومَ مفهوم " الاغتراب " أساسه الفلسفيّ و الذّاتيّ الفرديّ و الطّبقيّ و الفئويّ و الدّينيّ و العنصريّ ، إلى مفهوم جديد له اشتمل به على جماعات و مجتمعات و ربّما

دول أيضاً ، بحيث أنّ " المفهوم " هو الآخر قد دخل في الحالة الإمبرياليّة العالميّة ليكون جذراً و جوهراً ( أو ماهيّة ) في منظومة " العولمة " المعاصرة التي أضافت إلى " المفهوم " نفسه بعداً إمبرياليّاً و عولميّاً ، بحيث صار مؤخّراً يتوزّع بما يُشبه " العدالة العالميّة " في توزيع القهر و العنف ، في هذا المستوى، و التي لم ينجُ منها شعبٌ من شعوب العالم أو مجتمع أو دولة أو كيان ، و لو بتفاوتات عدديّة و نسبيّة بين فرد و فرد و بين شخص و شخص و بين دولة و دولة و بين أمّة و أخرى و بين مجتمع و مجتمع آخر ، تبعاً للدّور الوظيفيّ الذي يسلكه هذا المجتمع أو هذه الدّول أو تلك القوى ، دون غيره ، و باختلاف عن المجتمعات الأخرى ، في إطار دولة محدّدة و ثقافة مختلفة و دور "طبيعيّ" و وظيفيّ مختلف.

11 _و بإذعان خالص، فإنّ الدّول و المجتمعات المحدودة ثقافيّاً و السّهلة على السيطرة و المتخلّفة حضاريّاً ، إنّما تُعتبر الضّحيّة المثاليّة للنّظام الإمبرياليّ المعاصر الأخير ، و ذلك بقدر ما تشكّل هذه الأمم و الدّول و المجتمعات أدوات وظيفيّة طَرَفيّة و ظَرْفيّة ، و حسب ، في هذا النّظام العولميّ الكاسح ، و كذلك بقدر ما تفقد تلك الكيانات دورها الفاعل في عالمنا اليوم ، و بقدر ، أيضاً ، ما تكون الشّعوب و الدّول عدوّة لنفسها ، بأن تقبل ، راضية ، بدورها المحدود و الموجّه إلى داخلها بالطّغيان السّياسيّ و الثّقافيّ و الماليّ ( و ليس الاقتصاديّ ، بالطّبع! ) و الأخلاقيّ ، بعنصريّة مختلفة و متعدّدة النّعوت ، بحيث تشكّل من نفسها ، و في ما بينها ، عدواناً ذاتيّاً على " الذّات " ، لا يشفع لها فيه أن تتجمّع ثروات بعض أفرادها الماليّة كعبء على حياتها الاجتماعيّة و السّياسيّة و الاقتصاديّة ، و كاعتداءٍ مباشر داخليّ يُساهم ، فوراً و دائماً ، في دونيّتها الحضاريّة و مسوخيّتها التّاريخيّة ، في " تفوّق " منقطع النّظير في أوهامها الحضاريّة ، باحتكاريّاتها الماليّة الدّاخليّة التي لا تشفع لها فيها ، جميع ما يبتدر بعض أفرادها من لهاثات بلا ضفاف وراء ذلّ تكديس الثّروات غير المحدودة ، و التي لا تزيد أصحابها سوى اغترابات و دونيّات فوق دونيّات و اغتراب.

12_ و بالعودة إلى رأينا في " طبيعيّة " الظّاهرة الإمبرياليّة العالميّة و إلى " منطقيّة " العولمة كمنظومة عالميّة شاملة ، فإنّ ما هو غير الطّبيعيّ و المُخزي في الوقت نفسه ، هو أن يختار " البعضُ " دونيّة اغترابه العالميّ بملء " إرادته " ( و الأحرى ، جهله ) ، و هو يظنّ ، في الوقت عينه ، أنّه يندمج في " العالم " عن طريق اعتدائه ، بصفاقة متطرّفة ، على حقوق مَن حوله من المُشابهين له من البشر ، في الوقت الذي يجتمع فيه ، مع أعدائه الأخلاقيين ، التّاريخيين ، أنفسهم ، كعدوّ مضاعف و مزدوج ضدّ نفسه ، أوّلاً ، و ثانياً ، ضدّ بقايا " الآخرين "..


و هذا في الوقت الذي يُشكّل فيه هذا " النّمط " البشريّ الدّونيّ ، هدفاً مباشراً لقوى و كيانات بعضها معروف و بعضها غير معروف ، لن تتوانى عن سحقه كأيّ عدوّ لها في عالم الازدحام الشّديد للمنهومين العالميين الكبار ، و الذي يشكّل ، بالنّسبة إليهم ، عنصراً خاملاً في المعادلة الإمبرياليّة العالميّة ، بقدر ما هو عدوّ لذاته و عبداً لهم ، عندهم ، و لا يُشكّل خارج " محيطه " البشريّ و الاجتماعيّ سوى مخلوق زائد يسهل حذفه و لو كان في منتصف طريق دوره الهزيل.

 

د . بهجت سليمان  لواء متقاعد وسفير سوري سابق في الأردن


تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد