عمليات محور المقاومة

العربة الزهريّة (قصّة حقيقيّة يرويها الحاج هادي من أيّام الحصار في كفريا والفوعة).

 

 

رقيّة كريمي / مجلة بقية الله 

 

 

في أقلّ من ثانية وقعَتْ على الأرض. كنّا نشاهدها من بعيد. لم يكن باستطاعتنا فعلُ شيء، فقد كنّا داخل غرفة القيادة على حدود القرية، وهي كانت تدفع عربة الأطفال لتندسّ معها خلف الساتر الترابيّ الذي صنعناه من أجلهم. رأيتها من بعيد، وكان الدم ينزف من جرحها. لم أعرف أين أُصيبت وكيف. شاهدتها فقط وهي تزحف بصعوبة شديدة وآثار الدماء تمتدّ خلفها على الأرض. كانت تمدّ يدها المدمّاة بصمتٍ وتحاول باستماتة أن تقترب من العربة ولو سنتمتراً واحداً، لم تستطع، ظهر حذاؤها القديم؛ وأيّ حذاء؟! لم أرَ جيّداً، ولكن أظنّ أنّ حذاءها الممزّق كان مصنوعاً من دلو الماء. لم يبقَ لهم شيء بسبب الحصار الذي ناهز العامين، حتّى ملابسهم أصبحت بالية.

 

قنّاص "بنش"

 

نظرتُ باتّجاه "بنش"، وهي القرية التي كانت تأتي منها طلقات القنّاص، الذي لم يكترث أين ستستقرّ طلقاته؛ في الرأس؟ أم في القلب؟ أم يقتل أمّاً ويبقي أطفالها الصغار في هذا الحصار القاتل أيتاماً؟! لم أكن أعرف موقعه. أتعبنا هذا القنّاص. منذ مدّة وهو يقتل العابرين، من دون أن يعرفهم، ومن دون أن يكون هناك أيّ خلاف شخصيّ بينه وبينهم، ومن دون أن يعرف أسماءهم حتّى.

 

كانت "بنش" في يد المسلّحين، فيما نحن هنا في الحصار، الذي لا أعلم كم لبثنا فيه!

 

الهدف.. رضيعة

 

كان صوت بكاء الطفلة يقطّع قلوبنا. كنتُ أرغب في أن أغمض عينيّ. فلا طاقة لي على تحمّل رؤية هذا المشهد. فإمساك الأمّ جرحها بيد، فيما تحاول بيدها الأخرى أن تزحف على الأرض لتصل إلى العربة المنقلبة وصوت بكاء الطفلة في ارتفاع، كلّ ذلك كان يشدّني إلى كربلاء عام 61هـ.

 

لحظات وسمعنا صوت طلقة أخرى، فلم يتوقّف القنّاص. كان يريد استهداف الطفلة، أصاب دواليب العربة. صرختُ بقوّة: "ماذا تفعل؟"، وكأنّني أحاول تذكيره بأنّها طفلة رضيعة لا أكثر، وهل لم يكن يعلم بذلك؟ بل كان يعلم، ربّما أكثر منّي أيضاً. ألم يكتفِ باستهداف الأمّ؟ فماذا يريد من طفلة لا تعي ماذا تعني الحرب، ولماذا يقتلها؟ لم يتوقّف الرشّاش، ولا حتّى صوت بكاء الطفلة، الذي كان مؤشّراً على أنّها ما تزال على قيد الحياة. كنتُ أرغب في أن أركض إليها، وأضمّها إلى صدري، وأنتشلها من بين ألف رشّاش ورشّاش، ولكن لم يكن من الممكن الاقتراب من ذلك المكان، فهذا هو مراد القنّاص. صرختُ بقوّة وطلبتُ من زملائي المجاهدين إطلاق النار باتّجاه "بنش". لم نكن نعلم أين مخبأه. ليتني كنتُ أعرف، لخنقتُ "حرملة" هذا بيديّ العاريتَين. ثمّ طلبتُ عبر الجهاز اللاسلكيّ من الذين كانوا على مسافة قريبةٍ من مكان الأمّ أن يذهبوا لمساعدتها.

 

سنجدك قريباً...

 

تكسّرت العربة وأُصيبت دواليبها، فيما الطفلة تستمرّ بالبكاء. كانت الوالدة الجريحة لا تزال تحاول بكلّ ما تبقّى لديها من قوّة أن تحمي طفلتها، ولكنّها لم تتمكّن من التحرّك. لم أستطع أن أتحمّل مشاهدة أمّ تقاتل الموت بأظافرها المتكسّرة، ولا تستطيع أن تصل إلى طفلتها، وهي تراقب طلقات القنّاص، وترجو أن تصيب الرصاصات جسدها الدامي ولا تصل إلى طفلتها. قلت في نفسي: "لماذا خرجتِ؟ ألا تعلمين أنّك ستتعرّضين للخطر؟".

 

كنت أعلم أنّها لم تخرج من أجل التسلية، ربّما طفلتها كانت مريضة. ربّما كانت ذاهبة إلى المستشفى. وأيّ مستشفى؟ لم يبقَ شيء في هذه المستشفى. لا أدوية ولا حتّى أيّ ضمادات، لم يُحقن الأطفال منذ أكثر من سنتين هنا في الفوعتَين.

 

كنتُ أراقب قرية "بنش" عبر المنظار. لم تكن المسافة بيننا وبينهم بعيدة، فقد كنّا نسمع أحياناً أصواتهم البغيضة، ضحكاتهم، وحتّى شتائمهم لنا. قلت في نفسي: "سنجدك قريباً..."، ثمّ ضغطتُ على أسناني من الغيظ.

 

طائرة الطعام

 

هنا، لا يجدون الطعام، بل ينظرون إلى السماء من الصباح حتّى المساء بانتظار الطائرات التي سترمي لهم الطعام، بانتظار ربطة خبز أو دواء. وكم كان يصعب علينا رؤية خيبة الأمل في عيونهم، عندما تبتعد الطائرات بسبب إطلاق النار نحوها! هنا، لم يبقَ شيء، لا سكّر، ولا زيت، ولا عصير، ولا خبز، ولا حتّى ماء. في كلّ يوم أرى عجوزاً بعمر جدّتي تشدّ معها دلواً إلى سطح البيت من أجل أن تملأه من خزّان الماء، وأرى أمّهات يسخّنّ الماء على الحطب في البراميل الخالية، ويغسلن الأولاد بلا صابون، وبأجسادهم النحيلة من قلّة الطعام. وعندما يذهب بعضهم ليجمع ما يجده من حشائش الأرض في المزارع، يقتلهم القنّاص!

 

لا أريد أن أعرف

 

توقّف إطلاق النار من قرية "بنش". ونحن بدورنا أوقفنا إطلاق النار. يا ليت أحد رشّاشاتنا أصاب جبين ذلك القاتل. عدتُ إلى الخلف فلم أرَ الطفلة ولا الأمّ ولا العربة الزهريّة. لقد سحبوهم من أرض المعركة عندما كنّا نطلق الرصاص باتّجاههم. هل استشهدت الأمّ؟ لا أعلم. هل أصيبت الطفلة؟ لا أدري. لم أسمع صوت بكائها. ليتها لم تخرج.

 

هنا لم يبقَ أحد شابّاً. إذا نظر أحد إلى وجوههم سيظنّ أنّ أعمارهم فاقت الـمئة عام، بل أكثر! فقط خلال سنة ونصف، أصبحوا مثل العجائز.

 

عاد أصدقائي إلى الدشمة. أردتُ أن أسأل، ولكنّني لم أفعل. لا أريد أن أعرف بأنّ الأمّ استشهدت مع الطفلة. تذكّرتُ ابنتي. أين هي الآن؟ ابتسمتُ بصعوبة. ربّما تلعب. ربّما نامت. لا أدري... فقط أعرف أنّها الآن في أمان. ربّما والدتها تهدهدها في حجرها.

 

لا أذكر كم مضى على وجودنا في هذا الحصار! لم أستطع التنفّس. كنتُ أشعر بالاختناق. حاولتُ أن ألتقط أنفاسي بهدوء، فيما لا يزال صوت بكاء الطفلة في أذنيّ ولم يفارقني. وضعتُ يديّ على أذنيّ، ثمّ أغمضتُ عينيّ، وإذ بي أرى تلك الأمّ مرّة أخرى، عندما كانت تحاول أن تصل إلى العربة.

 

لم يهنأ لي بال طيلة تلك الفترة حتّى علمت أنّ كلاهما قد نجا. لكن الصوت بقي في أذني، فكم من أمّ وطفلة وعربة في تلك القرية؟

 

أطفال بإرادة كبار

 

كان وقت المغرب. أوّل يوم من شهر محرّم. ارتفع صوت أطفال القرية. وأيّ أطفال؟! بناتٌ بشعر مغبّر، وملابس تفوح منها رائحة الدخان من كثرة وقوفهنّ بجانب الموقد. فمنذ أكثر من سنة نفد المازوت.

 

لقد نسي الأطفال معنى (رقائق البطاطس) والسكاكر والشوكولاته. كانوا يقفون في الصفّ من أجل الحصول على الطحين بأيدٍ مجروحة من الفأس الذي كانوا يكسرون به الحطب، بملابس قديمة مهترئة وأحذية ممزّقة. أطفال أصبحوا كباراً قبل أوانهم، وترى سلب الطفولة في عمق أعينهم، أعين لا ترى إلّا الموت ماثلاً أمامها. هنا، جزيرة منسيّة، نسيتها حتّى الأمم المتّحدة!

 

أنظر إلى القرية من بعيد، وأنا على يقين أنّ هذه الأيّام ستنتهي قريباً، وسنخرج من هذا الحصار الصعب منتصرين. فالحصارات كلّها عبر التاريخ انتهت. حتّى حصار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في شِعْب أبي طالب انتهى. سوف يمضي الظالمون ويبقى الثابتون أبد الدهر، وستعود ضحكات الأطفال لتملأ أزقّة هذه القرية الحزينة من جديد.

 

ارتفع صوت الأطفال من مختلف أرجاء القرية، وهم يرفعون أعلاماً سوداء بالية. كانوا يهتفون في الليلة الأولى من محرّم، بصوتٍ قويّ يتحدّى العدوّ في معقله، فيما تحمّستُ لأردّد معهم والدمعة تُذرف من عينيّ: "لبّيك يا حسين.. هيهات منّا الذلّة". كانت هذه بالنسبة لي الكلمة التي تختصر كلّ حكاية الانتصار ولو بعد حين.

 


تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد