كتاب واراء

الأممي الأول… السيد عباس الموسوي

اسراء الفاس

أممياً كان السيد عباس الموسوي، عابراً للأوطان، كاسراً لحواجز الهوية، وماحياً بحركيته كل متاريس الحدود الجغرافية. هي صورة القائد الأممي تكاد اليوم تكون أكثر إمكانية للاستيعاب لمن لم يعايش مرحلة بدايات المقاومة الإسلامية في لبنان، لتتصل صورة القائد الأول بقائد أممي آخر هو عماد مغنية، وتلتصق مؤخراً بصورة قاسم سليماني العابر للأوطان متنقلاً بين جبهات لبنان وفلسطين وسوريا والعراق.. هكذاً كان الشهيد السيد عباس الموسوي ملتحماً بقضية فلسطين، متنقلاً بين باكستان وأفغانستان وايران، محملاً بأعباء أمة وصفها آخر من رحلوا من قادتها الأممين بأنها أمة شهيدة.

الملتصق بفلسطين…

“نيسان/ أبريل ١٩٦٨.. مجموعة فدائية تنطلق من لبنان، لتواجه قوات الاحتلال الإسرائيلي وتخوض معه معركة قاسية. معركة تل الأربعين في الأردن، التي انتهت باستشهاد الشاب اللبناني خليل عزالدين الجمل”… لتفتح بدايات أخرى.

كان الجمل أول شاب لبناني يُستشهد من أجل فلسطين، عاد جثمانه إلى بيروت التي خرجت تودعه في تشييع مهيب، بكافة أطيافها الحزبية والطائفية. من جملة المشيّعين كان عباس علي الموسوي، الفتى ابن الخمسة عشر عاماً. كان الموسوي من المهتمين بقضية فلسطين، يحرص على متابعة أعداد مجلة “ثورتنا” الفلسطينية، يتابع منشوراتها ويحتفظ بقصاصات من صور تنشرها المجلة ليلصقها على حائط غرفته. إلا أن استشهاد خليل الجمل شكل محطة فاصلة في حياته، وانطلاقة نحو مستقبل كان ينتظر السيد عباس الموسوي قائداً وموجهاً.

بعد تشييع الجمل، عاد السيد عباس الموسوي إلى بلدته النبي شيت، ومن هناك ذهب مشياً على الأقدام الى منطقة النبي اسباط ليدخل منها إلى منطقة الزبداني في الأراضي السورية، ملتحقاً بمخيم الهامة التدريبي في قدسيا بريف دمشق، كان من أول معسكرات التدريب الذي أنشأته حركة فتح، لتبدأ من هنا أولى خطوات السيد عباس الموسوي في النضال من أجل القضية الفلسطينية، وفق ما يذكر القيادي الفلسطيني الراحل أبو موسى، أمين سر فتح الانتفاضة، في مقابلة سُجلت معه قبل وفاته.

هناك كان يجري السيد الموسوي التدريبات العسكرية في صفوف حركة فتح، ليلتحق بفدائيي فلسطين، بينما كان والده يتنقل من مكان لآخر بحثاً عن ابنه، الا أن علم بمكانه، فقصد والد السيد عباس الموسوي المعسكر الفلسطيني ليجد ابنه مصاباً برجله ما حال دون متابعته الدورة العسكرية، ليعود مع والده إلى النبي شيت البقاعية.

كان قرار السيد عباس الموسوي التفرغ للدراسة الحوزوية، دون أن يشغله ذلك عن فلسطين، فالتحق بالسيد موسى الصدر في صور، حيث درس وتعمم على يديه. وكان لحضور السيد موسى الصدر الحركي على مستوى الساحة اللبنانية وما يتخطاها سياسياً ومعيشياً، بُعد حركي أخذ يترسخ في شخصية السيد عباس الموسوي الذي تتلمذ لاحقاً على يد السيد محمد باقر الصدر في النجف الأشرف حتى عودته منها في أواخر السبعينيات بعد أن عمد النظام البعثي في العراق لطرد العلماء اللبنانيين. ليؤسس في ٤ شباط ١٩٧٨ حوزة المنتظر.

خلال سنوات جهاده على المستوى المحلي، ومسار نضاله العابر للحدود ظلت فلسطين حاضرة كعنوان أساسي جامع ومحدد للبوصلة واحدة تجمع مختلف مسار حركيته الإسلامية. أينما حل السيد عباس الموسوي حلت فلسطين حضوراً وذكراً وخطوات تترجم الإيمان بقضية شعبها. خريف العام ١٩٩١، دعت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي كيان العدو والدول العربية للمشاركة في مؤتمر مدريد لتسوية الصراع بين الطرفين. كان موقف الجمهورية الإسلامية يكاد يكون موقفاً يتيماً في رفض المؤتمر باستضافتها لمؤتمر مناهض يجمع الفصائل الفلسطينية. كان الشهيد السيد عباس الموسوي بمثابة المحرك الأساس في مؤتمر طهران، فعمل جاهداً على فض خلافات كانت آخذة في الاتساع على مستوى الداخل الفلسطيني، وتحوّل مقر اقامته في العاصمة الايرانية إلى مركز عمل لا يهدأ حتى توصل سماحته إلى طرح عُرف لاحقاً بتحالف الفصائل العشرة الذي خرج بإعلان رفض مؤتمر مدريد أو أي قرارات ستصدر عنه مسقطاً شرعية أي تسوية، ويتمسك بحق الشعب الفلسطيني بالمقاومة.

لبنان… ساحات النضال مفتوحة

محلياً، آمن السيد عباس الموسوي أن المرحلة هي لتحرك العلماء لأخذ المبادرة، ولهذا كان ينظر إلى دور كبير لحوزة المنتظر، أبعد من الساحة الشيعية في لبنان. وكانت بعلبك هي الخيار، كونها الساحة الأكثر نأياً عن أحداث الحرب التي عصفت ببيروت وأجواء التوتر في الجنوب اللبناني. ١٤ آذار ١٩٧٨ شنّ العدو الاسرائيلي عدواناً على لبنان مكنّه من احتلال المناطق الواقعة جنوب نهر الليطاني. كان للسيد عباس دور محوري في تعبئة المجتمع على الجهاد.

صيف العام ١٩٨٢، اجتاح العدو لبنان وصولاً لبيروت ما اضطر السيد عباس الموسوي للعودة مع الشيخ راغب حرب، من طهران، عن طريق الأراضي السورية. لتبدأ مرحلة التعبئة الشعبية ضد الاحتلال من مسجد الإمام علي في بعلبك، حتى وصل عدد المتطوعين على صعيد منطقة بعلبك وحدها قرابة مائتي متطوع لمواجهة “اسرائيل”. أواخر العام نفسه، بدأت النواة الأولى للإطار السياسي لحزب الله تتشكل. انتخب مجلس الشورى من تسعة أعضاء، واختير السيد عباس الموسوي كمتحدث باسمهم. بعدها زاروا الإمام الخميني (قدس) الذي بارك الخطوة وقال للوفد الذي ترأسه السيد الشهيد: “إني أرى النصر في جباهكم”. ليعود السيد عباس الموسوي إلى لبنان حاملاً التكليف الشرعي بوجوب مقاتلة العدو في كل مكان وبكافة الوسائل المتاحة، وأخذ السيد عباس يقدم المقاومة كمشروع انتصار، لا كمشروع شهادة، بحسب ما ينقل الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله ضمن وثائقي “أمين الجهاد والشهادة” الذي عرضته قناة المنار… حتى أعلن حزب الله عام ١٩٨٥ عن رسالته المفتوحة لأول مرة.

انطلقت مرحلة التدريب العسكري والتعبئة الجماهيرية، وكان السيد عباس الموسوي يُشرف شخصياً على كل العمليات العسكرية وأهمها عمليتا الاستشهاديين أحمد قصير وعامر كلاكش (ابو زينب). تشكلت طلائع المقاومة الاسلامية في البقاع والجنوب والضاحية وبيروت، بإشراف السيد عباس الموسوي شخصياً، الذي قصد الجنوب للتنسيق مع الشيخ راغب حرب.  أرهقت عمليات المقاومة العدو، ما دفعه للانسحاب من مناطق عدة في الجنوب والبقاع الغربي لما عُرف لاحقاً بمنطقة الحزام الأمني، في إطار تنفيذ ما أطلق عليها العدو سياسة القبضة الحديدية. وفي تلك الفترة انتقل السيد عباس الموسوي ليستقر حي الرمل بصور الجنوبية ليكون المسؤول العسكري للمقاومة في الجنوب، ويشرف بشكل مباشر على العمليات الاقتحامية التي ميّزت المرحلة اللاحقة. كان الشهيد السيد عباس الموسوي يدير العمليات بشكل مباشر، وفي عهده تم اقتحام موقع سُجد كأول عملية مصوّرة تنفذها المقاومة الإسلامية في عام ١٩٨٦. بعدها أتت عملية أسر أول جنديين إسرائيليين(١٦ شباط ١٩٨٦)، أعقبها العدو بما عُرف باجتياح الأيام الستة التي انتهت بعجزه عن استرداد الجنديين، وأخذت عمليات المقاومة تتالى.

٢١ نيسان ١٩٩١، انعقد مجلس شورى حزب الله ليختار السيد عباس الموسوي أميناً عاماً وقائداً للمقاومة. ينقل الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله كيف قبل الشهيد السيد عباس الموسوي تقلد المنصب مُكرهاً، وذلك بعد نحو عشرة أيام من النقاشات المتواصلة.

بعد انتخابه أميناً عاما لحزب الله خط السيد عباس نهجا موازيا للعمل المقاوم تمثل في تدعيم العمل الخدماتي للمجتمع المقاوم ولبيئة المقاومة، فكما كان السيد عباس مرافقا للمجاهدين على خطوط القتال بات السيد مواكبا للناس في حياتهم اليومية يطّلع على شؤونهم وحاجاتهم الخدماتية، حيث حرص على زيارة الأحياء الشعبية للاطلاع مباشرة على احتياجاتهم ومعاناتهم وكان شعاره الخالد “سنخدمكم باشفار عيوننا”، وفتح منزله كل يوم خميس لاستقبال الناس والاستماع لمشاكلهم ومساعدتهم في حلها. يستذكر من عايشوا السيد عباس الموسوي عام ١٩٩٢، عندما تمكنت عاصفة ثلجية من عزل قرى عديدة في البقاع بعد اغلاق طريق ضهر البيدر. أرسل السيد يومها مساعدين له للعمل على ايصال مبلغ خمسين ألف دولار أميركي، لمساعدة المحاصرين في بيوتهم في المناطق البقاعية، وتم انفاق المبلغ على الأهالي المحاصرين بصورة مساعدات عينية، بعد التمكن من فتح الطرقات التي كانت قد طمرتها الثلوج، كما طلب سماحته يومها إرسال مجموعة من الأطباء والممرضين للمساهمة في مساعدة الأهالي.

أممي المقاومة الأول..

ولأنه أمميّ في ما حمل من قناعات وقضايا، عام ١٩٨٣ قرر السيد عباس الموسوي الإلتحاق بالجبهة الإيرانية للمشاركة في الدفاع المقدس ضد الحرب التي شنها النظام البعثي العراقي، قصد طهران إلى أهواز قاصداً الفاو.. الجبهة الحامية بين الطرفين، لكن سرعان ما وصل الشيخ عباس الكعبي كموفد شخصي من الإمام الخميني (قدس) للسيد الشهيد يحثه على ترك الفاو والعودة إلى لبنان لأن الدور الذي كان ينتظره في لبنان كان أهم من تواجده على الجبهة الإيرانية، وهذا ما كان. التقى السيد عباس الموسوي يومها بالإمام الخميني، ليعود مباشرة إلى متابعة عمله الجهادي في لبنان، ويتسع دوره متخطياً الساحة الشيعية وصولاً إلى طرابلس بالتنسيق مع الشيخ سعيد شعبان، وامتد التنسيق إلى صيدا بالتعاون مع الشيخ ماهر حمود.

١٨ آذار ١٩٩٠، انتقل سماحته إلى باكستان كمشارك أساسي في مؤتمر علمائي دعماً للقضية الفلسطينية. ما يعكس الشخصية الكاسرة للبعد المحلي اللبناني. في باكستان، جال السيد عباس الموسوي على أكثر من ١٧ قرية ومدينة، وكان يُستقبل من قبل الأهالي بحفاوة كانت محط استغراب من رافقه في رحلته. فلسطين والمقاومة والمكر الأميركي وظلم الاحتلال الإسرائيلي وعدوانه والتركيز على الوحدة الإسلامية، كانت المواضيع التي يتناولها السيد عباس الموسوي في كل جولاته، شاحذاً الهمم وطاوياً كل بعد جغرافي بين باكستان ولبنان وفلسطين. ومن باكستان قصد أفغانستان، زار قراها وأجرى لقاءات مع قيادات الأحزاب الأفغانية، وكان أن طلب زيارة المقاتلين الأفغان ضد الوجود السوفياتي، لم يُلبَ طلب السيد بداية نظراً للخطورة الأمنية، إلا أن طرفاً محسوباً على المجاهدين الأفغان تولى الموضوع، فزار مناطق العمليات العسكرية المحتدمة.
كشمير، شكلت محطة ثالثة لجولات السيد عباس الموسوي، التي زارها للاطلاع على أحوالها، وهناك كان له لقاء مفتوح بالإذاعة خاطب فيه كل أهالي كشمير وأكد على وقوف ومساندة الشعب الحر في تحرير مصيره ضد الاحتلال.

قدم السيد عباس الموسوي في مسار جهاده المفتوح على مختلف الساحات، صورة عن القيادة الأممية، التي أخذت تتبلور وتتمظهر في قيادات تابعت نهج قائدها الأول… لتكرس صورة مفهوم الجهاد والمقاومة العابر للأوطان باتجاه أمة حرة عزيزة مقتدرة. وتكون مرحلة عباس الموسوي شهيداً أصعب على العدو منه قائداً متنقلاً بين الجبهات، تماماً كمن التحقوا به من قادة شهداء.


تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد