كتب رياض الفرطوسي
في العراق، حيث ينبض قلب الأرض بالنفط كنبض حياة ثقيلة، يظل الاعتماد عليه وحده كسقف هش يهدد مستقبل البلاد. يومياً، يُنفق نحو خمسة مليارات دينار على البنزين وحده، أي ما يقارب ثلاثين ترليون وستمئة مليار دينار سنوياً، وهدر مالي يطرح السؤال: هل يمكن أن نعيش غارقين في النفط بينما تنام ثروات أخرى على رفوف مهجورة؟
الإجابة تكمن في ما حولنا: في المدن المقدسة التي تحتضن ملايين الزوار، في آثار بابل ونينوى التي تحكي تاريخ حضارة عمرها آلاف السنين، في طبيعة كردستان الخلابة، وفي الواحات الجنوبية التي تظل سحراً خفياً. السياحة الدينية، التاريخية، الثقافية والبيئية ليست مجرد جمالية، بل هي موارد مالية تنتظر من يكتشفها ويستثمرها.
ولكن العراق لا يملك هذه الثروات الطبيعية فحسب؛ بل يحمل في مؤسساته كنوزاً مالية غير مستغلة. وزارة العدل، من خلال كتاب العدول، التنفيذ، والتسجيل العقاري، تحقق إيرادات ضخمة لو أحسنا إدارتها. إضافة إلى ذلك، واردات منافذ الحدود، وزارة الصحة، الكمارك، وأمانة بغداد، كلها موارد يمكن تحويلها إلى دعم مستدام للموازنة العامة، بعيداً عن الاعتماد الكلي على النفط.
الأرقام هنا ليست مجرد بيانات جافة، بل مرايا تعكس واقعاً اجتماعياً: طبقة من موظفي الدولة أصبحت ثرية بفضل استغلال هذه الموارد، بينما يبقى المواطن العادي ينتظر تحولاً اقتصادياً يعكس قيمته.
المعالجة الاقتصادية إذن تبدأ من رؤية واضحة:
تقليل الاعتماد على البنزين والمشتقات النفطية، عبر تطوير النقل العام وتشجيع الطاقة المتجددة.
الاستثمار الحقيقي في السياحة بمختلف أشكالها، مع برامج تسويقية عالمية وتسهيل وصول الزوار.
تحسين إدارة الإيرادات الحكومية، بما يضمن الشفافية والعدالة ويحولها إلى قوة اقتصادية حقيقية.
دعم المشاريع المحلية والصغيرة والمتوسطة، لخلق طبقة اقتصادية متوازنة تحد من التفاوت الطبقي.
حين تتضافر هذه السياسات مع وعي اقتصادي حقيقي، يمكن للعراق أن يتحرر من قيود النفط، ويصبح نموذجاً للدولة التي جمعت بين ثروتها الطبيعية وتاريخها الغني وثقافتها العميقة لتحقيق اقتصاد مستدام ومتوازن.
في هذا الطريق، ما بعد النفط ليس مجرد شعار، بل وعد بمستقبلٍ أكثر إشراقاً، حيث تتحرك الثروات المخفية، وتزدهر المدن، ويعيش العراقيون في اقتصاد متنوع ينبض بالحياة بعيداً عن رهبة النفط وحده.