كتب حسين مرتضى
لا تبدو سورية اليوم أمام مجرد حوادث أمنية معزولة، بل أمام مشهد يعيد إنتاج الفوضى بأشكال جديدة، عنوانها الأبرز: صراع داخل التيارات المساحة نفسها ، وانعكاساته الدموية على الجغرافيا السورية المنهكة أصلًا.
الخلافات المتصاعدة داخل هيئة تحرير الشام لم تعد سرًا. ما كان يُدار سابقًا في الغرف المغلقة، بدأ يطفو على السطح عبر تسريبات، انشقاقات صامتة، واتهامات مباشرة لزعيم الهيئة، أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع)، بأنه اختار مسارًا يتجاوز “الخط الجهادي التقليدي” نحو براغماتية سياسية وأمنية، يراها خصومه الداخليّون خيانة صريحة لا اجتهادًا مرحليًا.
الحديث المتداول بين بعض قادة وعناصر الهيئة عن تعهدات قُدمت للأميركيين، تتعلق بملاحقة عناصر متشددة داخل الهيئة أو في محيطها، يعكس مأزقًا عميقًا: تنظيم نشأ على فكرة “المواجهة المفتوحة” يحاول اليوم إعادة تعريف نفسه، بينما يرفض جزء من بنيته هذا التحول رفضًا قاطعًا.
وفي التجارب المشابهة، غالبًا ما تكون نتيجة هذا الصراع انشقاقًا دمويًا، لا تسوية داخلية.
عودة العمليات الانتحارية، وعلى رأسها التفجير الذي استهدف مسجد الإمام علي في حمص، ليست حدثًا أمنيًا عابرًا. اختيار المكان، والتوقيت، والخطاب المرافق له، كلها مؤشرات على أن الفاعلين يريدون القول بوضوح إن مرحلة “الضبط” انتهت، وإن الساحة مفتوحة مجددًا لمنطق الرسائل الدموية.
أما بيان ما يسمى “أنصار السنة”، بلهجته التهديدية، فلا يمكن فصله عن محاولة استقطاب العناصر الساخطة من الفصائل الأخرى، وتقديم نفسه كبديل أكثر “نقاءً” في نظر المتشددين.
في موازاة ذلك، يأتي إعلان اعتقال قائد في تنظيم داعش داخل دمشق ليؤكد حقيقة طالما جرى تجاهلها: التنظيم لم يُهزم أيديولوجيًا، بل تراجع تكتيكيًا فقط. وهو ينتظر، كعادته، لحظات الانقسام والتفكك ليعيد التسلل والضرب.
داعش لا يحتاج إلى مساحات واسعة كي يعود؛ يكفيه صراع بين خصومه، وفراغ أمني، وخطاب تعبوي يعيد تسويق “العدو القريب” و”المرتد”.
المشكلة الأعمق أن كل هذه التطورات تجري فوق خارطة سورية شديدة الهشاشة: مناطق نفوذ متداخلة، سلطات أمر واقع، تدخلات خارجية، ومجتمع منهك اقتصاديًا ونفسيًا. في مثل هذا السياق، لا يبقى العنف محصورًا داخل التنظيمات، بل يتسرب سريعًا إلى الشارع، والمساجد، والأسواق، ويدفع المدنيون الثمن مرة أخرى.
افتتاحية الواقع السوري اليوم تقول بوضوح: الصراع لم يعد فقط بين النظام ومعارضيه، ولا بين قوى إقليمية متنافسة، بل بات أيضًا صراعًا داخل التيارات المسلحة نفسها، حول الهوية، والشرعية، ومن يملك حق تمثيل “القضية”.
وحين يتحول الخلاف الأيديولوجي إلى تفجيرات وعمليات انتحارية، فإن سورية لا تدخل مرحلة جديدة من الحل، بل تعود خطوة إضافية إلى الخلف.
الدم الذي يسيل اليوم ليس دليل قوة لأي طرف، بل دليل فشل جماعي في إنتاج مسار سياسي أو أمني يحمي ما تبقى من بلد أنهكته الحروب، والانقسامات، والأوهام الكبرى.