كتب رياض الفرطوسي
هل هناك حقاً خط واضح يفصل بين الخير والشر؟ أم أننا نسير جميعاً على حافة منطقة رمادية يمكن أن تغرقنا في أي لحظة؟ هذا التساؤل لم يكن مجرد فكرة فلسفية عند فيليب زيمباردو، بل كان قلب بحث علمي جريء غامر، وحيث تحول السؤال إلى تجربة تكشف النفس البشرية في أقصى درجاتها.
في عام 1971، أطلق فيليب زيمباردو، عالم الاجتماع والنفس الأميركي المعروف بأطروحاته الجريئة حول السلطة والسلوك الإنساني، تجربة سجن ستانفورد الشهيرة. لم تكن التجربة عن متطرفين أو أشرار بالفطرة، بل عن طلاب جامعيين عاديين تماماً، جرى اختيارهم بعناية للتأكد من استقرارهم النفسي، يحمل كل واحد منهم في داخله قابلية الخير كما قابلية الانحدار. لكن ما إن قُسِّموا عشوائياً إلى حراس وسجناء، حتى تكشّفت أمامنا قوة الموقف والسلطة بوصفهما عاملين قادرين على إعادة تشكيل الإنسان أسرع وأكثر قسوة من أي تنظير فلسفي أو أخلاقي مسبق.
منذ اللحظة الأولى، لم يكن هناك تمثيل. إذ تم اعتقال الطلاب على الطريقة الحقيقية، مع تكبيل، تفتيش، وإذلال أمام جيرانهم، لتبدأ قوة الموقف تعمل بسرعة صادمة: خلال ساعات قليلة، بدأ الحراس بتبني سلوكيات استبدادية، وابتكروا أشكالًا من العقاب النفسي والجسدي، بينما انهار السجناء تحت وطأة الذل والخوف.
أهم أدوات هذا التحول النفسي كانت ثلاث: إلغاء الهوية الفردية، التجريد من الإنسانية، والطاعة العمياء للسلطة. السجناء صاروا أرقاماً، الحراس أصبحوا كياناً موحداً بلا وجوه، ولم يعد التواصل البصري ممكناً. حين تختفي الهوية، يضعف وعي الإنسان الأخلاقي، ويصبح الإيذاء ممكناً، ليس بدافع شر داخلي، بل كنتيجة طبيعية لقوى الموقف.
ولم يكن انهيار التضامن مجرد فكرة نظرية، بل تجلّى في واحدة من أكثر لحظات التجربة قسوة: ما عُرف بـ(حادثة النقانق). حين رفض السجين 416 تناول طعامه احتجاجاً، لم يعاقبه الحراس مباشرة، بل وضعوا زملاءه أمام خيار خبيث: بطانياتكم الدافئة، أو كرامة زميلكم. اختار معظمهم الدفء، تاركينه في الحبس الانفرادي. في تلك اللحظة، لم يُكسر فرد واحد فقط، بل كُسر الضمير الجماعي، وتعلّم السجناء أن الشر لا يُفرض دائماً بالقوة، بل يُمرَّر أحياناً عبر صفقات صغيرة.
لكن في قلب هذا الظلام، ظهر نور بطولي: كريستينا ماسلاك، الباحثة التي جاءت من الخارج، أوقفت التجربة فقط لأنها رأت، بعين جديدة، ما يحدث حقاً. البطولة هنا لم تكن في القوة الجسدية، بل في الشجاعة الأخلاقية للقول "كفى"، لتذكّرنا أن مقاومة الشر ممكنة، لكنها تتطلب وعياً وشجاعة.
زيمباردو يؤكد أن الشر ليس قوة خارقة تنبع من الأشرار بالفطرة، بل هو احتمال كامِن في كل إنسان يمكن أن يُطلقه موقف معين، وسلطة بلا رقابة، وظروف صالحة. التاريخ مليء بالقادة الذين استغلوا هذا الشر الخفي تحت غطاء سياسي أو عقائدي: ستالين، هتلر، صدام حسين، كلهم لم يكونوا شريرين بالفطرة، بل وظفوا الظروف والأنظمة لإخفاء دوافعهم.
وبالمقابل، الخير العميق لا يحتاج إلى ألقاب أو عناوين، بل يتجسد في الأفعال اليومية، في مقاومة الطاعة العمياء، في المحافظة على الإنسانية وسط فوضى القوة. إذا كان أي شخص يمكن أن يتحول إلى شرير بالظروف المناسبة، فالمقابل أن كل شخص يمكن أن يكون بطلًا عند لحظة القرار. البطولة ليست حالة ثابتة، بل فعل وقرار في لحظة حاسمة.
في النهاية، تجربة زيمباردو تعلمنا أن فهم الشر لا يبرر الأفعال، لكنه يمنحنا فرصة لمعرفة كيف يمكن للمجتمع والأنظمة أن تصنع بيئات تتحول فيها النفوس العادية إلى شريرة، وكيف يمكن للوعي الفردي والشجاعة الأخلاقية أن تكون خط الدفاع الأخير ضد هذا الانحدار.
الخير والشر ليسا خطين متوازيين، بل رقعة واسعة من الظلال والاختيارات، والحياة كلها مسرح لتلك اللحظات التي يُختبر فيها ضمير الإنسان.