كتاب واراء

القوميّات والحدود الملتهبة: حروب «إسرائيل» وأميركا لتفكيك الشرق الأوسط !

 

 

 

د. عدنان منصور*

 

 

لم تخرج مسألة القوميّات في الشرق الأوسط، وبالذات في المنطقة المشرقيّة عن دائرة اهتمام دولها التي تحتضن قومياتها، (إيران، العراق، سورية، وتركيا)، ولا عن اهتمام “إسرائيل” العميق بها منذ نشوئها، والسير بنظرية “عقيدة الأطراف” لدافيد بن غوريون!

تشكل المسألة القومية لهذه الدول، قضية أمن قومي بنيوي وليس ظرفياً، خاصة مع وجود قوميات عابرة للحدود كالكرد في تركيا (شرق الأناضول)، وإيران (كردستان الإيرانية) وكردستان العراق، والكرد في شمالي شرقي سورية، والبلوش في إيران، وباكستان، وأفغانستان، الى جانب قوميات أخرى تعيش في إطار جغرافي محدّد داخل الدولة الواحدة كالعرب، والشركس، والقوميات القوقازية في تركيا.

أبرز هذه القوميات، الأذريون المنتشرون شمالي غربي إيران، ويقدّر عددهم بـ 20 مليون نسمة، وهم امتداد قومي إلى جمهورية أذربيجان، والعرب في الأحواز، والبلوش جنوب شرق إيران.

إنّ المصالح المشتركة للأمن القومي لكلّ من إيران، وتركيا، والعراق، وسورية، وباكستان، وأفغانستان، تستدعي وبرغم التنافس الإقليمي بينها، والاختلاف في المواقف حول قضايا إقليمية، ضرورة صياغة موقف موحّد يأخذ بالدرجة الأولى المصلحة القومية العليا للدول المعنية. لذلك ترفض هذه الدول دون استثناء، رفضاً قاطعاً المساس بوحدة أراضيها، أو القبول بأيّ مشروع يهدف إلى تفتيتها، أو تقسيمها قومياً، أكان ذلك داخل جغرافية الدولة أو على حدودها مباشرة. لأنّ أيّ انفصال لقومية ما، عابرة للحدود (الكرد، أو البلوش)، أو انفصالها عن الدولة المركزية، سيكون بمثابة نهر جارف، يجتاز حدود الدولة المجاورة، ليهدّد مباشرة وحدتها المركزية، وأمنها القومي، ونسيج شعبها، ووحدة أراضيها، لذلك، لا يمكن لهذه الدول القبول بتقسيمها من قريب أو بعيد، لا سيما أنّ إيران وتركيا تجسّدان نموذج الدولة المركزية القوية.

تركيا وإيران على يقين، أنّ الولايات المتحدة و”إسرائيل”، وبعض القوى الأوروبية، تستغلّ العامل القومي، لتمارس ضغوطها على الدول التي تحتضن قومياتها ولا تستجيب لمطالبها، أو تتعارَض أهداف سياساتها وخططها في المنطقة. من هنا، كان لا بدّ للدول، متعددة القوميات في المنطقة، وبالذات تركيا، وإيران، والعراق، من أن تتعاون في ما بينها أمنياً واستخبارياً، وأن تتخذ موقفاً مشتركاً حاسماً، لمواجهة أيّ نزعة أو حركة انفصالية مسلحة تهدّد وحدة البلاد وأمنها القومي، وإنْ اختلف مفهوم تركيا في تعاطيها مع المسألة القومية، مع المفهوم الإيراني لها، إذ تربط تركيا الحركة القومية الكردية بالإرهاب، وتتعامل مباشرة معها أمنياً وعسكرياً، وذلك باللجوء إلى العمليات العسكرية الاستباقية لتتجاوز الحدود، وتستهدفها وتضربها داخل الدول المجاورة لها، إلا أنّ إيران، تتبع نهجاً مغايراً، وسياسة أمنية وسياسية مزدوجة، حيث تعمل بهدوء على احتواء القوميات على أرضها، اقتصادياً، وتنموياً، واجتماعياً، وتقريب النخب المحلية إليها، وأيضاً ـ وهو الأهمّ ـ احتواء القوميات من خلال البعد الديني (المذهب الشيعي)، وتوظيف هذا البعد كعامل جامع موحد، ليتجاوز الانتماء القومي، ويظلّل القوميات ويستوعبها ويوحّدها، بحكم أنّ 90% من الشعب الإيراني ينتمي إلى هذا المذهب.

في ظلّ عدم وجود تحالف أمني بين دول المنطقة تديره بشكل دائم مؤسسات رسمية، يبقى التعاون الأمني ظرفياً، تتقاطع مصالحه أثناء التهديد المباشر لها، وليس تعاوناً استراتيجياً شاملاً. لذلك تلجأ دولة ما أحياناً إلى توظيف القومية ضدّ دولة مجاورة، كدعم تركيا لأذربيجان، مما يؤدّي إلى تأجيج النزعة الأذرية الانفصالية التي تخشاها إيران، مما يوتر علاقات إيران مع تركيا وأذربيجان.

يبقى التقاطع بين دول المنطقة محكوماً بسقوف سياسية وجيو ـ سياسية في ظلّ التنافس الإقليمي بين طهران وأنقرة. لكن التقاطع الأمني بين البلدين يمنع أيّ عمل يفكك وحدة الدولة المركزية، لأنّ نجاح أيّ مشروع انفصالي قومي في دولة مجاورة لهما، سيمثل سابقة خطيرة، تنتقل عدواها بسرعة إلى داخل إيران وتركيا، وهذا ما يفسّر الموقف الموحد لكلّ من إيران، والعراق، وتركيا، وسورية لرفض أيّ محاولة انفصالية كردية أو غير كردية!

لكن ماذا عن “إسرائيل” والقوى الدولية، وفي مقدّمها الولايات المتحدة، التي تستخدم القوميات وتستغلّها كعامل ضغط جيو سياسي لإضعاف الدول الإقليمية فيها، فيما طهران وأنقرة على قناعة تامة بما تضمره وتبيّته لهما هذه القوى ورأس حربتها “إسرائيل”، والتي تتوجّس من الدول الإقليمية الكبرى غير العربية، القادرة على تعطيل التفوّق الإسرائيلي، إذا ما تمتّعت بالاستقرار والوحدة، والقوة، وبسط النفوذ.

“إسرائيل” تعتبر إيران عدواً استراتيجياً مباشراً، عقائدياً، وعسكرياً، ونووياً، كما تعتبر تركيا منافساً استراتيجياً وسياسياً، وعسكرياً لها، لذا نرى سياسة “إسرائيل” ومفهومها حيال المنطقة، لا ينفصل عن مفهوم بن غوريون القائم على تفتيت البيئة الإقليمية المعادية أو غير المعادية لـ “إسرائيل”، وعدم القبول بدول إقليمية كبرى بهوية جامعة، محصّنة بجيش قوي رادع، لأنّ ذلك يشكل تهديداً طويل الأمد لها. لذلك تقف تل أبيب بكلّ قوة، لتحول دون بروز قوى إقليمية موحدة، أكانت عربية أو غير عربية. إذ ترى في استراتيجيتها، أنّ التنوّع القومي داخل الدول الإقليمية الكبرى، وتأجيج النزعة الانفصالية فيها، يزعزع أمن هذه الدول، ويجعلها أرضاً خصبة تتيح لـ “إسرائيل” التحرك سياسياً واستخبارياً، لإضعاف الدولة المركزية، وتفكيك أمنها القومي، واستنزافها من الداخل، وإشغال جيشها بأزماتها الداخلية، وكسر العمق البشري والجغرافي فيها، كي تصبح عاجزة عن تهديدها، ( العراق، وسورية).

“إسرائيل” وواشنطن تعملان على تجزئة إيران قومياً، والتي تمتلك امتداداً جغرافياً، وحضارياً، وثقافياً، وتاريخياً، وعمقاً بشرياً كبيراً، إذ بتجزئتها تفقد قدرتها العسكرية لخوض حرب طويلة، وبالتالي تتحوّل إلى كيانات ضعيفة متنازعة في ما بينها. وما ترصده واشنطن وتل أبيب لإيران، ترصدانه أيضاً لتركيا إذا ما تعارضت سياساتها مع مصالحهما الجيوسياسية، والأمنية، والاستراتيجية في المنطقة.

أميركا و”إسرائيل” تريان في تفكيك القوميّات في إيران، نهاية نفوذ طهران في المنطقة، مما يفقدها دعم حلفائها الإقليميين، وأيضاً وأد البرنامج النووي الإيراني طويل الأمد.

“إسرائيل” لا تفصل الحالة التركية، عن الحالة الإيرانية، لجهة التعاطي معهما وإنْ بنسب متفاوتة، لكن يبقى الهدف واحداً، لجهة تفكيك تركيا أمنياً، وإضعاف نفوذها في القوقاز، وكبح اندفاعها وحضورها في العراق وسورية، وشلّ قدرتها وتأثيرها في شرق المتوسط، لأنّ إنشاء كيانات هزيلة، يتيح لـ “إسرائيل” اختراقها بسهولة (كردستان العراق)، لتصبح بحاجة إلى الحماية وقابلة للخضوع بسهولة.

إنّ تفكيك الدول الكبيرة في الشرق الأوسط إلى كيانات قومية وطائفية، يشكل ضمانة حقيقية لأمن “إسرائيل”، التي ترى أنّ كياناً كردياً مستقلاً، سيؤدّي الى قطع التواصل الاستراتيجي البَرّي بين إيران وتركيا، وإلى كسر الطوق الجغرافي حولها، ويخلق حاجزاً جيوسياسياً وسط الإقليم يصبّ في صالحها، نظراً لعلاقاتها الوثيقة مع الكرد. (موقف “إسرائيل” المؤيد والداعم لاستفتاء كردستان العراق على استقلالها عام 2017).

لم تتوقف “إسرائيل”، عن العمل على تفتيت دول الشرق الأوسط، هذا الهدف يلوّح به قادة كيان الاحتلال الصهيوني، وسياسيّوه، وإعلاميّوه، منذ أن نشر أوديد ينون Owed Yinon وثيقته في مجلة “كيفونيم Kivunim” يوم 14 شباط/ فبراير 1982 التابعة للمنظمة الصهيونية العالمية. لقد رأى ينون انّ تفكيك الدول الكبيرة في الشرق الوسط إلى كيانات قومية وطائفية صغيرة هو الضمانة الحقيقية لأمن “إسرائيل”.

هل يعي قادة دول الشرق الأوسط وشعوبها أبعاد وحقيقة ما يجري على أرضها ويُحضّر لها، وبالذات إيران، وتركيا، وباكستان، والعراق وسورية ولبنان، ومصر والسودان، واليمن، وليبيا وغيرها من الدول؟!

غيوم التقسيم السوداء تستعدّ لإمطار دول الشرق الأوسط، فمن الذي سيغيّر مسارها…؟!

 

*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق


تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد