كتاب واراء

إيران وإسرائيل: زمن الإنذار الأخير

 

 

تشهد الساحة الإقليمية في المرحلة الأخيرة تصاعدًا لافتًا في حدّة الخطاب بين إيران من جهة، وإسرائيل والولايات المتحدة من جهة أخرى، وسط مؤشرات ميدانية تتجاوز حدود التهديد الإعلامي التقليدي. فبحسب تقارير إعلامية غربية، بينها ما نُقل عن قناة “العربية”، تشهد مواقع صاروخية في شرق إيران توسّعًا متزايدًا، بالتوازي مع خطوات عسكرية وُصفت بأنها غير مسبوقة، شملت تعميق القواعد وبناء ملاجئ تحت الأرض، وإعادة توزيع الصواريخ على امتداد الجغرافيا الإيرانية، إلى جانب تطوير ما يُعرف بـ“المزارع الصاروخية”.

هذه المعطيات لا يمكن قراءتها كتحركات دفاعية عابرة، بل تشير إلى انتقال إيران إلى مرحلة جديدة في إدارة الصراع، تقوم على تحصين أدوات الردع قبل استخدامها. فتعميق القواعد وتوسيع انتشار الصواريخ يعني عمليًا تقليص قدرة أي خصم على توجيه ضربة شاملة قادرة على شلّ القدرات الإيرانية، وتحويل أي هجوم محتمل إلى عملية طويلة، معقّدة، ومكلفة سياسيًا وعسكريًا.

في هذا السياق، تتحدث مصادر استخبارية غربية عن قناعة متزايدة داخل الحرس الثوري الإيراني بأن احتمال تعرّض البلاد لهجوم إسرائيلي لم يعد سيناريو نظريًا، بل بات مطروحًا على طاولة التقدير العملي. غير أن التعامل الإيراني مع هذا الاحتمال لا يبدو قائمًا على منطق الاستباق أو الانفعال، بل على تسريع الجهوزية ورفع مستوى التحصين، من دون الانجرار إلى ردود فعل متسرّعة قد تمنح الخصم ذريعة التصعيد.

ويأتي ذلك في وقت أطلقت فيه القيادة العسكرية الإيرانية تحذيرًا هو الأقوى منذ سنوات، موجّهًا بشكل مباشر إلى واشنطن وتل أبيب، أكدت فيه أن أي حماقة أو استئناف للعدوان سيقابل بردّ فوري وصاعق، يصل إلى حدّ “المحو من الخريطة” لكل من إسرائيل والقواعد الأميركية في المنطقة. اللافت في هذا التهديد ليس لغته فقط، بل تأكيده على عنصر السرعة، بما يعني عمليًا إسقاط مرحلة الانتظار والمناورة الدبلوماسية، والانتقال إلى معادلة ردع قائمة على الضربة الفورية.

وتعزّز هذا الخطاب مع تقارير تحدثت عن جاهزية “ترسانة الردع” الإيرانية بكامل طاقتها، ما يحوّل التهديد من مجرّد موقف سياسي إلى رسالة ذات مضمون ميداني واضح. فإيران، التي طالما اتُّهمت بالاكتفاء بالخطاب، تسعى اليوم إلى تثبيت صورة مختلفة: دولة لا تلوّح بالقوة فحسب، بل تمتلك القدرة على استخدامها في التوقيت الذي تختاره.

بالتوازي، تتحرّك طهران على مستوى آخر لا يقل أهمية، يتمثّل في توسيع هامشها الدولي. فطلب المساعدة والتنسيق مع دول مثل الصين وروسيا وباكستان لا يمكن فصله عن سعي إيراني لتحويل أي مواجهة محتملة من صراع ثنائي إلى معادلة إقليمية ودولية أكثر تعقيدًا. فكلما توسّعت شبكة المصالح، ارتفعت كلفة أي قرار هجومي، وتضاءلت قدرة الخصم على التحرك منفردًا.

في المقابل، تبدو إسرائيل أمام مأزق استراتيجي حقيقي. فالعقيدة القائمة على الضربات السريعة والتفوق الجوي تصطدم اليوم بواقع مختلف: خصم أعاد توزيع قوته، وحصّن بنيته، ورفع سقف الردع إلى مستوى يجعل من أي ضربة مغامرة غير محسوبة. أما الولايات المتحدة، فتجد نفسها عالقة بين دعم حليفها التقليدي، وتجنّب انفجار إقليمي قد يهدد قواعدها ومصالحها ويزعزع ما تبقى من استقرار في المنطقة.

 

 

الرهان على اختبار التحذير الإيراني لم يعد مقامرة عسكرية، بل مغامرة انتحارية. فواشنطن وتل أبيب تعلمان جيدًا أن ما تغيّر ليس حجم القوة الإيرانية فقط، بل طريقة استخدامها. لم تعد طهران تلعب على هامش الوقت، ولم تعد تنتظر لحظة إجماع دولي أو غطاء دبلوماسي. الرسالة واضحة: الضربة المقبلة لن تكون ردًّا، بل كسرًا للمعادلة من أساسها.

إسرائيل، التي بنت عقيدتها على التفوق الجوي والضربات السريعة، تجد نفسها اليوم أمام خصم حوّل الأرض إلى سلاح، والزمن إلى فخ. أما الولايات المتحدة، فتدرك أن أي اشتباك واسع لن يمر من دون ارتدادات كارثية: قواعدها المنتشرة، مصالحها الاقتصادية، وحلفاؤها في المنطقة جميعهم باتوا ضمن بنك الأهداف. ولهذا تحديدًا، فإن الصمت الأميركي الموارب ليس ترددًا، بل اعترافًا ضمنيًا بثقل الكلفة.

التحذير الإيراني الأخير لا يهدف إلى إشعال الحرب، بل إلى منعها بالقوة. إنه إعلان نهاية مرحلة، لا بدايتها. نهاية زمن الرسائل المبطّنة، ونهاية سياسة “الضرب والهروب”. من الآن فصاعدًا، أي خطأ في التقدير لن يُعالَج بالوساطات، ولن يُحتوى بالبيانات. سيكون خطأً نهائيًا.

لهذا، فإن السؤال لم يعد: هل ستجرؤ واشنطن أو تل أبيب على الضربة؟

بل: هل تملكان أصلًا القدرة على تحمّل تبعاتها؟

في شرق أوسط لم يعد يحتمل أوهام التفوق، يبدو أن من يضغط على الزناد أولًا، لن يكون المنتصر… بل البادئ بسقوطه.

 

دلال موسى


تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

المقالات الأكثر زيارة