( الجزء الاول )
كتب رياض الفرطوسي
في البلدان التي تتعب من نفسها، لا تولد السلطة فجأة، بل تُصنَع على مهل. تُعجن بالأفكار، وتُلمَّع بالمخاوف، ثم يُعلَّق لها اسم كبير: القائد الضرورة.
هكذا يبدأ كل شيء عادةً… لا بانقلاب، بل بفكرة.
في زمنٍ كان العراق فيه يبحث عن خلاصٍ سريع، عن قبضةٍ تشدّ الفوضى من عنقها، ترسّخت بين نُخب حزب البعث قناعةٌ بأن الجماهير وحدها لا تكفي، وأن التاريخ – حين يشيخ – يحتاج رجلًا لا صندوق اقتراع. رجلًا يختصر الأمة في صوته، والدولة في ظله.
كانت تلك النخب ترى أن النظام لا يقوم على المؤسسات، بل على الإرادة، وأن الزعامة ليست اختياراً شعبياً بل قدراً سياسياً. ومن رحم هذا الإيمان، وُلدت فكرة "القائد الضرورة" التي سرعان ما تجاوزت الحزب لتبتلع الدولة بأكملها.
كان الإيمان بـ“القائد الضرورة ” إيماناً فلسفياً قبل أن يكون سياسياً. فكرة مستوردة من كتب الفلاسفة، لكنها حين نزلت إلى أرض الرافدين، لبست الزي العسكري، وتكلمت بلهجة الحسم. لم يكن الأمر إعجاباً عابراً بشخص، بل اقتناعاً بأن العراق لا يُقاد إلا من أعلى، وبأن الديمقراطية في بلادٍ مثقلة بالهويات ليست وعداً بالخلاص، بل وصفةً للفوضى.
في تلك اللحظة، لم تكن الشعارات الحزبية تُفهم على معناها الحرفي. الحرية لم تكن صناديق، بل استقلال قرار. والاشتراكية لم تكن عدالة، بل سيطرة الدولة. أما “الديمقراطية”، فكانت كلمة تُقال للاستهلاك، لا للاستخدام.
بين رجلين، كان العراق يقف على حافة التحوّل.
أحدهما هادئٌ، وقور، يحمل في ملامحه رائحة الدولة القديمة، ويتكئ على ما تبقّى من هيبة الماضي. هو أحمد حسن البكر؛ رجلٌ يجمع بين خشونة العسكريين ووقار الشيوخ، يتظاهر بالسكينة والتديّن، ويُخفي خلف هدوئه حذراً غريزياً من زمنٍ يعرف أنه لم يعد زمنه. كان يؤمن بالتدرّج، بالعرف، وبأن السلطة تُدار بالعادات لا بالمغامرات. لكنه، من حيث لا يدري، كان يُمهّد الطريق لظلّه الأكثر بروزاً؛ ذاك الذي كان يقترب منه بخطواتٍ محسوبة، يُقدّم الولاء كغطاء، والطموح كقَدَر.
والآخر متوثّب، متقد، يرى في المستقبل مشروعاً شخصياً لا وطناً جماعياً؛ هو صدام، الطموح الذي لا يعرف الانتظار.
كان الأول يتحدث بلسان الماضي، والثاني بعينٍ على الغد، وبين الحذر والاندفاع بدأ الميزان يميل.
فالسياسة – كما هي دائماً – لا تصبر على المترددين، ولا تسعُ قلبين في جسد سلطةٍ واحدة.
كان الصراع غير معلن، لكنه محسوم في الكواليس. فـ(صدام) لم يكن يؤمن بنصف الحلول، ولا يرى في الانتظار فضيلة. أدرك مبكراً أن السلطة لا تُوهَب، بل تُنتَزع، وأن الأخلاق في معارك الحكم ترفٌ لا يملكه الطامحون إلى القمة. قرأ الأمير لا ككتابٍ في الفكر السياسي، بل كخريطة طريق، وطبّق الميكافيلية لا بوصفها فلسفةً، بل كغريزةٍ متأصلة في سلوكه.
وهكذا، بدأ يبني طريقه إلى العرش خطوةً بعد أخرى، مدفوعًا بيقينٍ داخلي أن التاريخ لا يرحم المترددين، وأن القوة وحدها هي التي تكتب فصول الحكم.
في البداية، بدا كل شيء منسجماً مع منطق الضرورة، بل بدا – في أعين كثيرين – خطوةً محسوبة نحو الخلاص. حتى الحرب، رغم أن أبواب تفاديها كانت مفتوحة، جرى تقديمها كقدرٍ لا مهرب منه، وكأن التاريخ نفسه كان يطالب بقرابين جديدة.
تداخلت ضغوط الخارج مع حسابات الإقليم، وامتزجت بها هواجس الزعامة التي ترى في النار وسيلةً للتطهر لا للهلاك.
لكن النار، كما هي دائماً، لا تعرف ما يُراد بها؛ فهي لا تميّز بين من أشعلها ومن احترق بها.
بعد الحرب، بدأت الشقوق تظهر. لم يعد القائد هو المشروع، بل أصبح المشروع هو القائد. تراجع الخطاب العقلاني، وتقدمت اللغة العشائرية. تسلل الريف إلى القصر، وصارت الدولة تُدار بمنطق الثأر والولاء لا بالكفاءة. تحوّل الطموح من رغبة في صنع التاريخ إلى هوس بالذات. ومن قيادة البلاد إلى امتلاكها.
أخطر لحظة في عمر السلطة ليست حين تقسو، بل حين تظن أنها تُحب.
ففي ذلك الزمن، صار العراق قفصاً واسعاً، تُغلق أبوابه باسم الأمان، وتُفتح فقط لمن يبارك الصمت. لم يعد الخروج قراراً شخصياً، بل جريمةً تُفسَّر على أنها خيانة. من عرف الأسرار، صار أسيرها. ومن رأى المطبخ من الداخل، حُكم عليه بالبقاء تحت العين، لا تحت الشمس.
تحوّلت البلاد إلى دائرةٍ مغلقة، تُدار بالخوف والشك. فكل مسؤولٍ يُفكّر في الرحيل كان يُرى كخطرٍ محتمل، وكل اختلافٍ في الرأي يُترجم إلى مؤامرة. لم تعد الحدود تفصل الوطن عن الخارج، بل صارت تفصل المواطن عن نفسه.
فالسلطة التي تخاف السقوط، لا تثق بأحد… حتى بأقرب المصفقين لها.
وهكذا، قبل أن تبدأ الحروب الكبرى، كانت الحرب الأولى قد اشتعلت:
حرب الفكرة حين تتحول إلى صنم،
وحرب القائد حين يظن أنه الوطن.
يتبع ..
صناعة الطاغية ( الجزء الثاني )
في قلب سلطة البعث، كان هناك مكتب لا يهدأ، يحتفظ في جدرانه بصمت ثقيل وأسرار لا يلمسها سوى القليل من المقربين. هؤلاء الرجال، الذين اختارهم الطاغية ليكونوا عينه وأذنه، كانت مهمتهم نقل الحقائق كما هي، قراءة الواقع بلا رتوش، ومواجهة الأحداث بجرأة—أو على الأقل محاولة فهم ما يجري خلف الستار.
الطاغية لم يكن مجرد رئيس، بل كان مركز العالم في نظر هؤلاء، مرآة الدولة وقلبها النابض. ومن يعمل بالقرب منه كان يلمس الحدود الدقيقة بين الحقيقة والصورة، بين ما يجب أن يُقال وما قد يُغضبه، بين الواقع كما هو وبين الواقع كما يراه هو.
في البداية، كان يُسمح لهم بنقل الحقائق، ومراقبة ما يحدث، وتقديم تقارير صريحة عن الوضع الداخلي والخارجي. لكن مع مرور الوقت، سرعان ما تغير القانون غير المكتوب: لم تعد الحقيقة مطلوبة إلا إذا خدمتها صورة الطاغية، وإذا عكست عظمته كما يراها هو.
مع مرور الوقت، اكتشف المقربون أن الحقيقة ليست دائماً مرغوبة. الطاغية، الذي كان في البداية يقبل منهم الصراحة، صار يطلب شيئًا آخر: أن يرى نفسه في كل كلمة، في كل تقرير، في كل صورة تُعرض على الناس. المديح لم يعد مجرد تقدير، بل أصبح ضرورة. الالتزام بتكريس عظمة الطاغية تحول إلى سقف إلزامي لكل رسالة، لكل إعلان، لكل خطاب.
ومع تعاظم سلطته، بدأ الطاغية يهيمن على كل مفاصل الحياة العامة: الإعلام، التربية، التعليم، والمنظمات الجماهيرية، كلها أدوات لصياغة صورته الأسطورية. الجامعات أصبحت محصورة بأتباع حزب البعث العربي الاشتراكي، والفن والشعر استُخدما كأبشع وسائل الدعاية، لصناعة الطاغية رمزاً يفوق الواقع. في الوقت نفسه، كانت آلة التصفية تعمل بلا هوادة، لتزيل كل صوت معارض، كل تهديد محتمل لأسطورته المزيفة.
في هذا السياق، تشكلت النقابات والأحزاب الموالية: اتحاد العمال، الاتحاد الوطني لطلبة العراق، اتحاد الشباب، وكلها كانت وسائل مطواعة في خدمة الطاغية. الإذاعة والتلفزيون والأخبار أصبحت مرآة واحدة، صورة واحدة: الطاغية، الطاغية، الطاغية.
عندما اندلعت الحرب العراقية-الإيرانية، أصبح الإعلام آلة متقنة، جسراً بين الواقع والخيال، بين ما يحدث بالفعل وما يُراد للناس أن يصدقوه. العدو لم يعد مجرد قوة مقابلة على الأرض، بل شخصية مركبة تُلصق بها كل المخاوف والتهديدات، وكل الأشباح التي يريد الطاغية زرعها في عقول الجماهير.
القلق لم يكن محدوداً بالخارج فقط. داخل أروقة الحزب، كان الخوف من انهيار الداخل كالحرب مع الخارج: خوف من الثورة، من سقوط النظام، من انهيار ما يُبنى على خرافة القوة. الكوادر التي بدت صلبة بدأت تتململ، والوجوه التي بدت ثابتة بدأت تتردد تحت وطأة الرهبة، كما لو كان سقوط الخارج سيصبح واقع الداخل، ويحطم كل مناصبهم وأمنياتهم.
وهكذا، صُنعت الشخصية التي ستصبح الطاغية: ليس في القرارات وحدها، بل في الطريقة التي تُوجَّه بها العقول، في الصورة التي تُغرس في الذهن الجماعي، في الأسطورة التي تُحيط بالسلطة حتى تصبح الدولة نفسها امتداداً لشخص واحد. القوة لم تكن في الدولة، بل في الإيمان بها، الإيمان الذي زرعه شخص واحد في عقول الجميع، وجعلهم يصدقون أن الواقع يطابق الأسطورة.
يتبع ..
صناعة الطاغية (الجزء الثالث)
قبل أن تُطلق الرصاصة الأولى في الحرب العراقية–الإيرانية، كانت رصاصة أخرى قد أُطلقت داخل النظام نفسه: رصاصة الخوف.
الخوف من أن تنتقل عدوى الثورة الإسلامية في إيران إلى الداخل العراقي، وأن تتحول الشعارات الدينية والسياسية القادمة من طهران إلى شرخ في بنية السلطة، لا إلى تهديد عسكري مباشر على الحدود.
في أواخر سبعينيات القرن الماضي، كان حزب البعث العربي الاشتراكي يعيش حالة ارتباك حقيقية. سقوط نظام الشاه في إيران لم يكن حدثاً خارجياً عابراً، بل إنذاراً داخلياً. الحزب، الذي بنى شرعيته على القوة والتنظيم والانضباط، بدأ يخشى أن يرى صورته في مرآة جارٍ سقط فجأة، رغم أجهزته الأمنية وجيشه ونفوذه الإقليمي.
هذه المخاوف لم تكن همساً في الممرات فقط، بل نُقلت صراحة إلى صدام حسين من قيادات حزبية وإعلامية كانت تراقب الشارع، وترصد تصاعد نشاط الأحزاب الإسلامية، وعلى رأسها حزب الدعوة، إلى جانب الخطاب الإيراني المتصاعد بعد الثورة. كان القلق واضحاً: هل يمكن أن يتكرر السيناريو الإيراني في العراق؟
ردّ صدام حسين على هذه المخاوف لم يكن سياسياً بقدر ما كان أمنياً وعقائدياً. لم يتعامل معها بوصفها أزمة تحتاج إلى احتواء، بل كتهديد يجب القضاء عليه مبكراً. كان موقفه واضحاً: أي حزب، أو جماعة، أو فرد يتأثر بالثورة الإسلامية في إيران أو يحاول نقل أفكارها إلى الداخل العراقي، سيُواجه بالقمع الكامل دون نقاش أو تساهل. الرسالة التي أراد إيصالها كانت حاسمة: لا مجال للاختلاف، ولا مساحة لأي تأثير خارجي يمكن أن يزعزع بنية السلطة.
في هذا السياق، لم يكن صدام حسين متخوّفاً من المد الديني بحد ذاته، بقدر ما كان يرى في المشهد الإقليمي فرصة نادرة. إيران خارجة من ثورة، منهكة سياسياً، ومرفوضة دولياً بعد أزمة الرهائن. دول الخليج تشعر بالتهديد، والولايات المتحدة تبحث عن طرف يعيد التوازن. العراق وجد نفسه فجأة في موقع يسمح له بأن يظهر بمظهر “المدافع عن البوابة الشرقية للأمة العربية”.
هنا، بدأ التحول الكبير في وظيفة الإعلام. لم يعد دوره نقل الوقائع، بل إعادة تعريف الحرب قبل أن تبدأ. الحرب لم تُقدَّم كصراع مصالح أو حدود، بل كمعركة مصيرية بين العرب والفرس، بين الدولة والنار القادمة من الشرق. استخدمت مصطلحات قاسية، بعضها كان خاطئاً استراتيجياً، مثل توصيف الإيرانيين بـ“المجوس”، وهو توصيف لم ينجح في تعبئة الداخل بقدر ما أثار حساسية دينية ومجتمعية داخل العراق نفسه.
ومع ذلك، استمر الخطاب، لأن الهدف لم يكن الدقة بقدر ما كان التعبئة. ففي زمن الحرب، لا يُطلب من الناس أن يفهموا الأسباب، بل أن يؤمنوا بالرواية. والرواية، كي تعيش، كانت تحتاج إلى غلاف أقدم من السياسة، وأعمق من الجغرافيا.
في تلك اللحظة، قرر صدام حسين أن يمنح الحرب لباساً دينياً–تاريخياً، فأطلق عليها اسم “القادسية الثانية”. لم يكن الاسم بريئاً ولا عفوياً، بل محاولة واعية لاستدعاء التاريخ إلى ساحة المعركة، وتحويل الصراع من حرب دولة إلى ملحمة وجود. لم يعد الجنود يقاتلون من أجل حدود مرسومة على الخرائط، بل من أجل راية قيل لهم إنها مرفوعة منذ قرون، ومن أجل “مجد” أُعيد تدويره ليبرر الموت.
الإعلام التقط الإشارة سريعاً، وبدأ يسوّق للحكاية الجديدة. الأناشيد العسكرية لم تكن مجرد أصوات حماسية، بل أدوات تعبئة نفسية كثيفة الرمزية.
“هيه يا سعد… يا جدنا… يا الرايتك من عدنه”،
أغنيات بسيطة في ظاهرها، لكنها محمّلة بإيحاءات الدم والنسب والميراث. الجد هنا لم يكن شخصاً، بل تاريخاً مستعاراً، والراية لم تكن قماشاً، بل إذناً بالقتل. هكذا، مهّدت الموسيقى الطريق للرصاص، وجعلت الذهاب إلى الجبهة يبدو أقرب إلى طقس بطولي منه إلى مسيرة موت.
ولم يتوقف التسويق عند حدود العراق. هيمنة صدام الإعلامية تمددت إلى خارج الجغرافيا، إلى باريس ولندن، حيث كانت مجلات عربية تُدار بأقلام لبنانية وسعودية، جرى شراؤها بالكامل، لا بالاقتناع، بل بالمال والنفوذ. هناك، في عواصم الحرية، رُسمت صورة “قائد الأمة العربية”، و“حارس البوابة الشرقية”، و“رجل المرحلة”. تضخمت الألقاب، وتكاثرت الأسماء، حتى صار للطاغية أكثر من تسعة وتسعين اسماً، كل اسم منها مرآة إضافية للتمجيد، لا للحقيقة.
لكن خلف هذه الأسطورة المصنوعة بعناية، كانت هناك فاتورة ثقيلة. الحرب العراقية–الإيرانية لم تكن نصراً لأحد، بل خسارة مزدوجة لشعبين جرى استنزافهما باسم الشعارات. العراق، الذي كان ديناره يعادل ثلاثة دولارات، خرج من الحرب مفلساً، منهكاً، حتى صار الدولار الواحد يساوي ألفاً وخمسمئة دينار. الخزينة أُفرغت، البيوت جاعت، والناس تعلّموا كيف يعيشون على الخوف بدل الأمل.
ومن خلال هذا الجوع، وهذا الاستنزاف الطويل، استطاع صدام حسين أن يُحكم قبضته أكثر. الحرب كانت وسيلة للهيمنة، والتجويع سياسة، والخوف نظام حكم. زُجّ الشباب في جبهات طاحنة، لا خيار لهم سوى القتال أو الاتهام بالخيانة. وحتى الفن، الذي يُفترض أن يكون مساحة للروح، جرى تجنيده.
كثير من كتّاب الأغاني والفنانين والمطربين لم يكونوا مؤمنين لا بفكر البعث ولا بصدام حسين، لكن الإيمان لم يكن شرطاً للبقاء. كان يكفي أن تكتب، أن تغني، أن “تردح” للقادسية من خلال المسرح العسكري، كي لا تُرسل إلى الخنادق. الفن لم يعد تعبيراً، بل وثيقة نجاة.
في إيران، تجسدت القداسة في شخصية الإمام الخميني، رجل الدين الذي اكتسب مكانته من بساطته، ومن خطابه الديني، ومن شعور قطاعات واسعة من الشعب بأنه يمثلهم ويعبّر عن آلامهم وتطلعاتهم.
أما في العراق، فقد جرى بناء قدسية من نوع آخر؛ قدسية مفروضة لا نابعة، صُنعت لرجل السلطة، للدكتاتور، عبر الإعلام، والحرب، والخوف، حتى تحوّل إلى رمز لا يُسأل، ولا يُناقش، ولا يُنتقد. هنا لم تكن القداسة نتيجة إيمان، بل نتاج سلطة أرادت أن تُرى مقدسة كي لا تُمس.
الحرب، في بدايتها، لم تكن مخططة لتكون طويلة. القيادة العراقية اعتقدت أن ضربة سريعة ستفرض واقعاً سياسياً جديداً، ثم يُفتح باب التفاوض. لكن ما لم يكن في الحسبان هو حجم الالتفاف الشعبي داخل إيران، واتساع الجغرافيا، واستعداد النظام الجديد لخوض حرب طويلة مهما كانت الكلفة.
وعندما أدرك صدام حسين أن الحرب لن تنتهي سريعاً، كانت ماكينة التعبئة قد دخلت مرحلة اللاعودة. الحرب نفسها تحولت إلى مشروع لإعادة إنتاج السلطة، وتعزيز صورة الطاغية، وتحويله من رئيس إلى رمز لا يجوز المساس به. كلما طال أمد الحرب، ترسخت فكرة أن بقاء النظام مرتبط ببقائه، وأن أي تشكيك به هو تشكيك بـ“المعركة المصيرية”.
هكذا، لم تُصنع صورة الطاغية عبر الإعلام وحده، بل عبر الحرب، والتجويع، والخوف، وتكريس فكرة العدو الدائم. الدولة لم تعد تُدار بالعقل السياسي، بل تُعبَّأ بالعاطفة والخطر المستمر. والواقع لم يعد كما هو، بل كما أراد الطاغية أن يُرى ويُصدَّق.
يتبع…