كتاب واراء

خطاب القلق

 

 

كتب رياض الفرطوسي

 

لم يأتِ خطاب ترامب المفاجئ مساء الأربعاء كحدث عابر في روزنامة السياسة الأمريكية، بل بدا كاعتراف غير مباشر، اعتراف قيل بصوت عالٍ كي لا يُسمَع ما تحته. كان خطاباً مشدود الأعصاب، كثيف الإشارات، أقرب إلى مناجاة رجل يشعر بأن الأرض التي يقف عليها لم تعد صلبة كما يعلن.

 

منذ الجملة الأولى، بدا واضحاً أن الرئيس لا يخاطب الحاضر بقدر ما يصارع الماضي. جو بايدن كان حاضراً كظل ثقيل، يُستدعى لا بوصفه سلفاً، بل كذريعة دائمة. ترامب لا يزال يقيس نفسه بالآخر، وكأن نجاحه لا يكتمل إلا بإعلان فشل من سبقه. إنها سياسة المقارنة المستمرة، حين يتحول الحكم إلى مرآة، لا إلى مشروع.

 

في الاقتصاد، ارتفعت النبرة وازدحمت الأرقام، لكن المعنى ظل مراوغاً. حديث عن إنجازات كبرى، وتحسّن شامل، وانتعاش يكاد يُرى بالعين المجرّدة… غير أن المؤشرات، تلك التي لا تجامل، تروي قصة أقل بهجة. الدولار لم يستجب للخطاب، والأسواق لم تبدُ مقتنعة، والمواطن العادي ما زال يشعر بأن الوعود تسبق الواقع بخطوات واسعة. بدا الاقتصاد هنا كقصيدة جميلة الإلقاء، ضعيفة الوزن.

 

أما في السياسة الخارجية، فقد ارتدى ترامب عباءة صانع السلام العالمي. تحدّث عن صراعات قال إنه أنهى اشتعالها، وكأنه أغلق ملفات العالم بجرّة قلم. لكن الجغرافيا عنيدة، والدم لا يختفي بالخطابات. أوكرانيا ما زالت في قلب النار، غزة مفتوحة على كل الاحتمالات المؤلمة، سوريا معلّقة بين تسويات مؤجلة، الهند وباكستان يراقبان بعضهما بحذر قديم، وأفريقيا لا تزال تحمل توتراتها بصمت ثقيل. ما قُدِّم بوصفه نهايات، لا يبدو سوى فواصل قصيرة في حروب طويلة.

 

ثم جاءت ذروة الخطاب: 18 تريليون دولار من الاستثمارات الأجنبية. رقم هائل إذا ما قورن بناتج قومي لا يتجاوز 31 تريليوناً. غير أن هذا الرقم، على ضخامته، لم يترك أثراً ملموساً في قوة الدولار ولا في ثقة الأسواق، ما جعله يبدو أقرب إلى إعلان سياسي منه إلى حقيقة اقتصادية قائمة.

 

وفي ختام الخطاب، فتح ترامب دفاتر الكرم السياسي: دعم للجيش، هبات للشرطة، وعود للدواء والعلاج. مشهد مألوف في مواسم القلق الداخلي، حين تتحول السياسة إلى عرض اجتماعي سريع، هدفه تهدئة الداخل قبل أن تبدأ معركة انتخابات الكونغرس. لم يكن ذلك برنامجاً بقدر ما كان محاولة لشراء الوقت، وإعادة ترتيب المزاج العام.

 

هكذا بدا الخطاب كله: ليس إعلان قوة، بل إدارة قلق. قلق من اقتصاد لا يطاوع السردية، ومن عالم لا يستجيب للشعارات، ومن استحقاق انتخابي يقترب بخطوات واثقة. ترامب، الذي اعتاد الهجوم، ظهر هذه المرة في موقع الدفاع، يتكلم كثيراً لأن الصمت لم يعد خياراً .

 

إنه خطاب القلق، حين تصبح الكلمات جداراً، لا نافذة، وحين يُقال الكثير لإخفاء ما لا يُقال.


تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد