*بقلم: ناجي علي أمهز*
معالي الوزير،
أكتب إليكم لا من موقع الانتماء الضيّق، بل من موقع الإيمان العميق بلبنان فكرةً ورسالة.
أنا لبناني قومي، لا أؤمن بوطنٍ مجتزأ، ولا أرى في الجغرافيا سوى حدود السيادة، وفي الإنسان سوى معنى الانتماء. دافعت عن لبنان من منظار مارونيٍّ صافٍ في وطنيته، وافتخرت بانتمائي الشيعي لا بوصفه هويةً مغلقة، بل باعتباره طريقًا إلى الشهادة من أجل الوطن، لا إلى الامتياز داخله. لم أطلب من طائفتي يومًا شربة ماء، لأن من قدّم الدم من أجل بقاء الوطن قد أعطى الجميع حقّ البقاء. وهكذا تُقاس عظمة الأوطان: بقدرة شعبها على أن يموت كي لا تموت هي.
واجهت الوصاية السورية حين كان الخوف والترهيب سياسةً عامة، واعتُقلتُ لأجل مواقفي، ودافعت عن القوى المسيحية من القوات اللبنانية إلى الكتائب، كما دافعت عن التيار العوني الذي كنت انتمي إليه. وفي ذروة القمع، لم أتراجع عن الدفاع عن الدكتور سمير جعجع، حتى زارني الدكتور عبد المتعال كورشاب، مسؤول الشرق الأوسط في منظمة العفو الدولية آنذاك، ليتعرّف على هذا “الشيعي” الذي قد يُعتقل أو يُقتل لأنه رفض أن يُساوم على حرية رجل يمثل ركناً في وطن الكرامة. يومها، أدركنا معًا معنى لبنان: وطنٌ صغير بحجمه، عظيم بتعدديته ووحدته، ورسالة للتعايش.
وأعتزّ بأنني نشأت في بيتٍ عرف المارونية إيمانًا ومحبة لا عصبية. لقد كان لبيتنا صلة روحية عميقة بلغت حدّ أن والدتي، في لحظة تجلٍّ إيماني، زارتها القديسة برناديت في رؤيا، وأوصتها بأن تُسمي مولودتها القادمة "برناديت" ليكون ذلك نذراً وبركةً تحمي أبناءها. ويومها، حملت والدتي هذه الرؤيا إلى مثلث الرحمات البطريرك مار نصر الله بطرس صفير — الذي كان حينها مطراناً على جبيل — فبارك هذا النذر وقدّم بيده "لباس النذر" لأختي. كما تربيت على يد مثلث الرحمة الأباتي أنطوان ضو، الذي علّمني أن أخاك الماروني هو أنت الشيعي، وأن جمال هذا الوطن يكمن في هذه الأخوّة. لبنان يشبه تعاليم المسيح في تسامحه، ويشبه رسالة الأنبياء في جمعه للأعياد والأحزان: نحتفل بالميلاد والفطر، ونحزن معًا في عاشوراء، وجمعة الالام، لأننا شعب واحد وإن تعددت طوائفنا.
معالي الوزير،
الأسرى لدى إسرائيل هم لبنانيون. وانتماؤهم إلى المقاومة – إن صحّت الادعاءات الإسرائيلية – لا يتعارض مع القوانين اللبنانية، التي شرّعت المقاومة ببيانات وزارية وتشريعات واضحة. هؤلاء لم يخرجوا عن الدولة، بل مارسوا، بحسب قناعتهم، واجب الدفاع عن الوطن في مواجهة عدوٍّ ما زال يحتل ويعتدي. إن استمرار احتجازهم بعد أخذ الإفادات يجعل من اعتقالهم عملًا تعسفيًا، لا إجراءً حربيًا. ويزداد الأمر خطورة في حالة "عماد أمهز"، الذي اختُطف من منطقة بعيدة عن الجبهات المباشرة، ما يضعه في خانة المخطوف لا أسير الحرب.
وأقولها بوضوح: القوات اللبنانية، التي أقرّ بمكانتها وزعيمها الدكتور سمير جعجع وتمثيله شريحة واسعة من اللبنانيين، لا تستطيع – أخلاقيًا ولا وطنيًا – تحمّل صمتٍ كهذا تجاه اختطاف مواطن لبناني. فالتاريخ لا ينسى، وما يُكتب فيه لا يُمحى.
أكتب لأن بعض أبناء طائفتي ينعتونني أحياناً بـ "بالماروني"، ليس لشيء بل لأنني أشبه كل لبنان، ولأن بعضهم لا يعلمون عظمة الطائفة المارونية التي اقتطعت بالصبر من تحت أقدام يسوع أرضاً من السماء اسمها لبنان، ليكون من مجدها مجدهم ومجدنا جميعا، واي انتقاص من دور الموارنة بالدفاع عن كل مواطن لبناني هو انتقاص من تعاليم يسوع.
أكتب لأنني لم أهاجم أحدًا طائفيا، ولأنني دافعت عن "الآخر" كما أدافع اليوم عن "طائفتي". لقد عشتُ السياسة وظروف المسيحيين القاهرة، وأدركت أن الخلافات الفكرية والحزبية ليست سوى "غيم صيفٍ عابر"، فيما يبقى الوطن هو الثابت الوحيد.
معالي الوزير،
كل لبناني هو امتداد للبناني آخر، ولا خلاص لأحدنا دون خلاص الجميع. أنا لا أدافع عن أحزاب، بل عن المارونية التي أؤمن بصليبها حاضنًا للوجود المسيحي المشرقي الانساني الثقافي، وعن الشيعة الذين أرى في داخلهم نورًا من الإمام علي بالاعتدال والانسانية في هذا المشرق المتطرف.
أرجو منكم الاهتمام بقضية الابطال الأسرى والعمل على عودتهم. فالأم التي يُستشهد ابنها تتصالح مع قبره، أما الأم التي يُختطف ابنها، فإنها تموت كل يوم ألف مرة عند صورته.
إن وزارة الخارجية اللبنانية مدعوّة اليوم لأن تكون وفية لإرثها ومكانتها، ولفيلسوف دبلوماسيتها شارل مالك؛ ذاك الأسطورة اللبنانية في المحافل الدولية، الذي علّم العالم معنى حقوق الإنسان.
كما أرث يسوع بالنسبة لي هو كأرث الامام علي "ع" بالنسبة للموارنة، إرثٌ يضرب جذوره في أعماق قيمنا المشرقية التي اعترفت بها الأمم المتحدة (في تقرير التنمية الإنسانية) حين استشهدت بعهد الإمام علي لمالك الأشتر كأحد أقدم المراجع التاريخية التي أرست قواعد العدالة والحكم الرشيد، وتوقفت عند وصيته الانسانية الخالدة التي تُلخص جوهر الوجود اللبناني: 'الناس صنفان، إما أخٌ لك في الدين، أو نظيرٌ لك في الخلق'. والفرق كبير بين اله اليهود الذي منحهم الحق باستعباد الانسان لانه "غوييم" تجسد بصورة البشر لخدمتهم، وبين اله الموارنة "لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ أَيْضًا لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذُلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِين"َ، "مرقس 10: 45".
هذا واجبكم، ودوركم، وفرصتكم التي ستُكتب بحروف من ذهب في تاريخ لبنان. وحقي عليكم مناشدتكم بأن تُفرحوا قلب يسوع في ذكرى ميلاده، بأن يعود هؤلاء الأسرى إلى "مجدلياتهم" اللواتي ينتظرن القيامة بلقائهم.
مع فائق الاحترام والتقدير.