قناة المقاومة والتحرير (1):
كتب إسماعيل النجار
تُصنَّف الزيارات الرسولية لحاضرة الفاتيكان، في الأدبيات السياسية والدينية، ضمن ما يُسمَّى بالدبلوماسية الأخلاقية؛ أي تلك التي يفترض أن تحمل رسائل عابرة للحدود، تتجاوز الاصطفافات، وتخاطب الإنسان بوصفه كيانًا روحيًا وسياسيًا واجتماعيًا، لا بوصفه تابعًا لطائفة أو مذهب أو مكوّن وحسب.
من هنا، جاءت زيارة البابا لاوون الرابع عشر إلى لبنان في توقيتٍ بالغ الحساسية، حيث تتقاطع الأزمات الوجودية للدولة مع تهديدات الحرب وتصدّعات المجتمع الأهلي، ما أثار لدى اللبنانيين على اختلاف انتماءاتهم موجةً من الترقب والأسئلة، لا سيما أن البابوات في المخيلة الجمعية يُقدَّمون عادةً بوصفهم رسل السلام، وأن أقدامهم "أين تحط رِحالها يعم الحب والخير والسلام". لكن السؤال المركزي الذي فرض نفسه بقوة هو؟ هل يحمل معه حاكم الكرسي الرسولي أي شيء من هذا إلى اللبنانيين؟ وخصوصاً أن جنوب لبنان كان الغائب الحاضر!
.في مقياس الرمزية الدينية، لا يمكن قراءة زيارةٍ تحمل عنوان "رسالي" إلى لبنان، من دون التوقف عند الجنوب؛ الأرض التي دفعت أثمان الحروب، والمجتمع الذي يتعرّض دوريًا لاهتزازات أمنية وعسكرية كبرى. ومع ذلك بقي السؤال الأكبر دون إجابة؛
رسول السلام لماذا لم يزور الجنوب؟!
فالزيارة إلى مناطق النزاع ليست حدثًا بروتوكوليًا، بل فعل اعترافٍ إنساني وأخلاقي بالمعاناة، ورسالة طمأنةٍ للرعية الوطنية الجامعة، لا للدوائر الرسمية فقط. لذلك نسأل هل الصمت عن الحرب دلالة أم غفلة؟
.في القصر الجمهوري، وعبر منبرٍ يفترض أنه يخاطب لبنان بكل أوجاعه، لم يسمع اللبنانيون ما يعكس حجم ما يجري على أرضهم. وهنا برز العتب المباشر على رسول السلام لماذا لم يذكر العدوان على لبنان خلال إلقائه كلمته؟ فالدراسات المعاصرة في تحليل الخطاب الديني السياسي تؤكد أن التجاهل المتعمّد للنزاعات من قبل شخصياتٍ روحية مركزية، يُقرأ غالبًا كتموضع ضمني، أو كإحجام عن تبنّي موقفٍ يُزعج الأطراف الأقوى تأثيرًا سياسيًا؛ وهو ما يفقد الرسالة بعدها الكوني ويحوّلها إلى نصٍّ أخلاقي مُحايد سلبيًا، لا مُحايد فاعلًا.
أما خطابُ الشباب الذي اعتبروه نصفُ الحقيقة لا فائدة منه طالما أن لبنان ليس بخير! وكثير من الشباب إنتقدهُ حين وجّه نصائحه للشباب المسيحيين "ألا يغادروا لبنان"، وهو مطلبٌ مفهومٌ في منطق الحفاظ على الوجود، لكنه أثار التساؤل! لماذا اقتصرت توجيهاته الرعوية إلى الشباب المسيحيين لكي لا يغادروا لبنان دون أن يسمي طائفتهم؟!
فالجغرافيا الديموغرافية للبنان ليست مسيحية خالصة، والأزمات التي تدفع الشباب إلى الهجرة لا تضرب طائفة دون أخرى، بل تضرب فكرة الدولة ذاتها. وعندما تُوجَّه الوصايا إلى مكوّنٍ واحد، يلتبس الخطاب بين الرسالة العامة والهمّ الهوياتي الخاص.
البابا تحاهل ذكر عدوانٌ بحجم وطن فهل لم يَصِل إلى أسماعه ما فعلت إسرائيل بلبنان؟ وخصوصاً أن لبنان يجد نفسه اليوم في مواجهة تصعيد إسرائيلي واسع، وقد بدا العتب على البابا هنا أكثر مباشرة؛ ألم يسمع صاحبُ الكرسي الرسولي أن لبنان يتعرّض لعدوانٍ كبير وواسع من إسرائيل؟ وإذا كان الجواب بنعم، فلماذا لم يُذكَر؟ وإذا كانت الإجابة بلا، فهنا يَطرح السؤال الأخطر عن حدود الإحاطة لدى الدبلوماسية الفاتيكانية نفسها.
المؤالمة في الكلام لا تُبرَّر عندما يكون الانقسام الداخلي أكثر فتكًا من القصف الخارجي. وهنا تجلّى اللوم الذي لا يحتاج إلى تفسيرٍ بين السطور.
الم يصل إلى أسماعه أن رعيته المسيحية المهيمنة على الكنيسة في لبنان تدعو إسرائيل لسحق الشيعة؟!
والتحريض بين اللبنانيين، واصطفاف بعض القيادات الدينية مع دعواتٍ إقصائية، كان يفترض أن يكون أولوية خطابية لدى أي زعامةٍ روحية تزور بلدًا ممزّقًا، لأن السكوت عن خطاب الكراهية يُشرعن الكراهية، ولو لم يُعلَن ذلك.
أما قانا الجليل جرحُ الذاكرة الذي لم يُلامَس بحضوره! الزيارة الأخلاقية لا تُبرَّر بعدد القصور التي تُزَار، بل بعدد الجراح التي يُوضَع عليها إصبع الاعتراف لا الملح. وهنا ظهر السؤال الروحي الوطني الأشد صدقًا؛
ألا تستحق قانا الجليل زيارة البابا لاوون لمقابر شهدائها؟
ففي قانا، لا يُدفَن مذهب، بل يُدفَن لبنانيون سقطوا لأنهم لبنانيون.
هذه البقعة من الوجدان اللبناني كانت تستحق وقفة، وصلاة، وكلمة على الأقل؛ لا لأن الفاتيكان مسؤول عن حروب المنطقة، بل لأنه مسؤول عن موقفه من قيم الإنسان أثناء الحروب.
أيها الحبر الأعظم...
لقد أراد اللبنانيون أن تلامس الزيارةُ معنى السلام الحقيقي. والاعتراف بالعدوان، ومواجهة التحريض، ومواساة الجراح، وزيارة الأماكن التي صارت مقابر للإنسان لا للسياسة.
.أما أن تبقى الزيارة في إطار الخطاب العام غير المُلتزم، فإنها تتحول من دبلوماسية روحية إلى روتين بروتوكولي جميل العنوان، خفيف المضمون. وحتى يبقى للكرسيِّ الرسولّي صدقُ لقبه، على البابوات أن يطرحوا السؤال قبل اللبنانيين أنفسهم.
هل جئنا لنصلي فوق الأوجاع أم حولها؟