*بقلم: ناجي علي أمهز*
لن أغوص الآن في تحليل أسباب موقف "الإخوان المسلمين" من التسوية السياسية الراهنة، فهذه الحالة تستدعي دراسة منفصلة أختصرها بجملة واحدة تكشف عمق المأزق القادم: إن أزمتهم الوجودية ستبدأ فعلياً مطلع عام 2026، حين يلاحقهم الطرد والترحيل وتضيق عليهم الأرض بما رحبت، فلا يجدون ملجأً؛ لا في مصر ولا الأردن ولا قطر، ولا حتى في تركيا التي تسابق الزمن لترتيب أوراقها الداخلية قبل أن يجتاحها طوفان الفوضى لاستئصالهم.
ولكن، في اللحظة التي بدأ فيها الأفق اللبناني يتلمس خيوط الانفراج، وتتجه الدولة بحذر نحو حلحلة العقد تمهيداً لاستعادة الاستقرار وتأمين أموال إعادة الإعمار ووقف آلة القتل والاغتيالات الإسرائيلية، بدأت تطل علينا -كعادتها في كل مفترق طرق- تلك الرؤوس التي أدمنت الكلام واقتاتت على الأزمات. وغالبيتهم ممن يسمون أنفسهم "القوميين العرب" وورثة اليسار الغوغائي البائد، أولئك "الاستراتيجيين" الذين لم يصدقوا في نظرية واحدة منذ سبعين عاماً، ولا حتى من باب المصادفة العمياء.
إن المصيبة الكبرى لا تكمن في حناجرهم التي تضخ مئة كلمة في الثانية، بل في عقولهم التي توقفت عن الإنتاج منذ عقود. هؤلاء هم "سفسطائيو" هذا العصر؛ يمتلكون طلاقة لسان مخيفة، لكنك إن طالبتهم بإعادة صياغة أفكارهم لترجمتها على أرض الواقع، لوجدتهم عاجزين عن شرح المضمون بترابط منطقي، لأنهم ببساطة "ظاهرة صوتية" جوفاء.
ولعل أخطر ما في المشهد الراهن، هو نجاح هؤلاء في تسيدهم منابر "محور المقاومة". لقد استغلوا تضحيات الشباب ووجع الناس ومقدرات المحور ليكرسوا أنفسهم وجوهاً إعلامية سياسية وفكرية ثابتة، في عملية انتهازية واضحة. فتاريخهم يشهد عليهم: القوميون الذين اعتبروا صدام حسين قائداً للبوابة الشرقية وحامياً للعروبة من "التوسع الفارسي" (كما نَظّروا في الثمانينات)، هم أنفسهم بصقوا على تمثال صدام وهو يسقط، واليوم يتصدرون الشاشات للدفاع عن التحالف مع إيران! وبحال سقطت ايران سيذهبون الى مكان ثالث، اما اليساريون الذين ماتوا في سبيل شرعية الاتحاد السوفياتي سابقا، انقلبوا بين ليلة وضحاها -بعد سقوطه- إلى "مبشرين" ومتدينين (مسيحيين ومسلمين)، متفرجين بلا مبالاة على تحطم تماثيل انبياء اليسار القديم.
هذه الفئة تشن اليوم حملة تحريض شعواء على العملية السياسية التي تقودها الحكومة اللبنانية تحت تسميات مختلفة، من اجل بقاء مكان ومنبر لهم بعد ان اغلقت بوجههم المنابر في مصر وسوريا، وهذا التحريض ليس حرصاً على القضية الفلسطينية -فهم لم يقدموا لها إلا الكلام الذي تحول إلى شهرة ومناصب ومكاسب، بل لأنهم ينمون في بيئات الحرب والمجتمعات الفقيرة المعدومة. ولإنهم يستغلون كل وجع لإبراز أنفسهم كقادة للجماهير، حتى لو كانت قيادة نحو الهاوية، فالمهم بالنسبة لهم أن يكونوا في المقدمة، ولو خلفهم دمار شامل.
هؤلاء "مقاولو أزمات"، لا يملكون أي مشروع للحياة أو البناء. رأسمالهم الوحيد هو "الأزمة". لذا، عند بوادر أي حل سياسي أو استقرار، يصابون بما يسمى "الذعر الوجودي" فيبدؤون بنشر السوداوية وتعطيل الحلول، كون بضاعتهم الفكرية لا تسوق في اوطان مستقرة، وهم محاصرون بالمغرب العربي، ومرفوضين بالخليج الذي دعمهم بكرم شديد مع بدايتهم قبل ان يكتشفهم، ولم يبقى امامهم الا الشيعة للاستثمار في ازمتهم الوجودية.
كما أنهم منفصلون عن الواقع. ففي الوقت الذي قلب فيه الذكاء الاصطناعي مفاهيم الحرب والسلم، والطب والاقتصاد والتعليم والبحوث العلمية، وأعاد تشكيل العالم في عامين فقط، لا يزال هؤلاء يجترون نظريات سياسية بائدة تعود لما بعد الحرب العالمية الثانية لم تعد صالحة لزماننا. فنحن ننتقل من "القرية الكونية" إلى "الغرفة الكونية" الواحدة، حيث ما يحدث في نيويورك كانه ببيروت في اللحظة نفسها.
نحن أمام نظام عالمي جديد، تتساقط فيه كيانات وتقوم تكتلات، وقد نشهد تقسيمات جوهرية تطال حتى القوى العظمى كالولايات المتحدة التي قد تواجه موجات استقلال فيدرالي. وكما تغير العالم خلال ألفي عام وشهد سقوط حضارات عظمى من الرومانية إلى العثمانية، فإن لبنان اليوم أمام هذا المخاض العسير: إما السير في عملية تسوية واقعية، أو التهشيم والتقسيم والاضمحلال في غضون سنوات لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة.
لذلك، لا يجوز رفض التسوية إلا إذا كانت تنتقص من حقوق جوهرية لفريق معين، لكن لا يتصور أحد أنه قادر على الرفض بالمطلق. حتى الإسرائيلي، ورغم استثماره الوحشي في دمار غزة، سيجد نفسه مضطراً للقبول، ومنح الفلسطينيين في الضفة دولة تشبه "دولة توفالو"؛ أي مجرد كيان رمزي له عملة وجواز سفر ومقعد في الأمم المتحدة، فهذا هو سقف الواقعية الدولية الحالية. ولهذا السبب تحديداً تحلم إسرائيل بشن حرب مدمرة على لبنان والشيعة تحديدا، لنسف التسوية وجعلها غير قابلة للتطبيق، لأن بديل التسوية هو دمار وتهجير حقيقي.
ومن موقع الحرص، أناشد الطائفة التي قدمت الغالي والنفيس، ألا تصغي أو تسوق أو حتى تنشر بهذا الخصوص إلا ما يصدر عن سماحة الشيخ نعيم قاسم والرئيس بري او من يمثلهما حرفياً.
وأكرر، لا تصدقوا كلام غالبية القوميين العرب واليساريين، فهؤلاء ربما لا يوجد بينهم من هو مستعد لدفع تكاليف السفر حتى لحضور مؤتمر سيتحدث فيه! هؤلاء يُحجز لهم بأفخم الفنادق ويُكرّمون، ومع ذلك إن حصل خطأ واحد في تكريمهم وتبجيلهم -وربما تقديسهم- يحتجون ويتذمرون.
ختاماً، أؤكد أنه يحق للشيعة رفض التطبيع مع العدو الإسرائيلي، ولكن رفض "التسوية السياسية" بالكامل مكلف للغاية، وهي التي قد تفضي إلى هدنة طويلة الأمد (قد تصل لخمسين عاماً). فالدراسات الدولية في ظل العولمة الكاملة، تؤكد أن الدول التي تفتقد للاستقرار الاجتماعي والاقتصادي محكومة بالانهيار، ولا يمكن الاستمرار في حالة حرب أبدية دون دولة قوية واقتصاد متين.
لقد انتهى عصر الحروب المفتوحة. ويكفي الشيعة فخراً أنهم في هذا الزمن سجلوا انتصاراً كبيراً للإنسانية والتحرير وقدموا تضحيات جساماً من أجل غيرهم حتى دون أنتظار كلمة "شكراً". لكن في النهاية، هناك واقع أكبر من الجميع.
اليوم، يجب أن نكون جميعاً خلف قرار الدولة، ونحملها المسؤولة أولاً وأخيراً. وعلى الشيعة اليوم التزام الوحدة الكاملة في الاستحقاقات السياسية، النيابية والبلدية، والحفاظ على كافة مكتسباتهم وتكريسها وتثبيتها دستوريا بما لا يقبل النقد أو الطعن في المستقبل، والتوجه نحو الصناعة، والتمكين الاقتصادي، وبناء روابط نخبوية تتماشى مع متغيرات هذا العصر المتسارع.
إن المستقبل لمن يبني دولة، لا لمن يستثمر في خرائبها.