كتاب واراء

لبنان بين نار الابتزاز وأفق الانكسار المستحيل

كتب إسماعيل النجار،

 

 

في عالم السياسة لا شيء يُقاس بكثرة التصريحات، بل بثقل النتائج. وما يجري اليوم على جبهة لبنان مع الكيان الإسرائيلي، وفي الغرف الدبلوماسية الأميركية، يقدّم نموذجًا صارخًا عن معركة حديثة بعقلٍ شيطاني يتجاوز الحدود العسكرية إلى أبعد من ذلك،

إنها حرب على الوعي والهوية والسيادة قبل أن تكون على الأرض والمعابر. الأمر بتفاصيله الميدانية والسياسية والإعلامية، يكشف مشهدًا شديد التعقيد، تُحاول من خلاله أميركا وإسرائيل إعادة تشكيل لبنان وفق معادلة واحدة هي نزع سلاح المقاومة تمهيدًا لتطبيع قسري يُفرَّض بالإرهاب السياسي والتهويل العسكري، لا بالحوار ولا بالمنطق الدولي.

.على مستوى الميدان، لا يمكن وصف ما يجري بأنه حرب شاملة، لكنه أيضًا ليس سلامًا. الجنوب يعيش صراعًا منخفض الوتيرة، يعبّر عن استراتيجية إسرائيلية تقوم على رسائل يومية بالنار! تمشيط بالرشاشات، قنابل مضيئة وحارقة، واستهداف معدات مدنية مرتبطة بإعادة الإعمار. إنها محاولة مقصودة لـتعطيل عودة الحياة الطبيعية، وتحويل القرى الحدودية إلى فضاء مربك نفسيًا يُبقي السكان في حالة قلق دائم. تهدف هذه العمليات إلى تثبيت فكرة أن الدولة وحدها غير قادرة على حماية الجنوب أو إدارة أمنه، وبالتالي يجب القبول بتسويات تتيح للعدو حرية استهداف “مفتوحة” بحجة ردع أي تهديد يسمّيه بنفسه ويحدّده بنفسه. غير أن الوقائع الميدانية تُظهر أن هذه الرسائل، بدل أن تهزّ الداخل، باتت مصدرًا إضافيًا لتأكيد هشاشة الهدنة في نظر الجمهور، لا لتطويعه ولا لإخضاعه.

.في السياسة، تروّج واشنطن وتل أبيب لخطاب واحد، يتكرّر مثل تعويذة تفاوضية؛ القرار 1701، وقف إطلاق النار، “حصر السلاح بيد الدولة”، القوّة الدولية البديلة لليونيفيل، ومهل زمنية حاسمة قبل نهاية العام. ورغم أن كل هذه العناوين تبدو للوهلة الأولى قانونية ودولية، إلا أن الجوهر الحقيقي ليس ها أي علاقة له بالقانون، بل بـإعادة هندسة البيئة اللبنانية. الخطة الأميركية الإسرائيلية التي تنطلق من فرضية مفادها أن الحرب لم تُسقِط المقاومة ميدانيًا، وبالتالي لا يمكن تفكيكها إلا عبر تجفيف مالٍي لمسارات الدعم والتمويل.

وتجفيف اجتماعي لقدرتها على التجنيد الشعبي.

وتجفيف عسكري لضرب القيادة والتصنيع المحلي للتسليح.

.بهذه المقاربة، لا يراد للدولة أن تكون طرف حماية، بل أداة مواجهة داخلية بحجج دولية، ما يعني جرّ لبنان إلى صدام يقوّض كيانه من الداخل لا من الخارج. لكنّ هذه الرهانات اصطدمت حتى الآن بجدارٍ صلب، فالمقاومة لم تُظهِر أي علامات وهن بنيوي أو فقدان زخم بيئتها الداعم لها، بل تظهر قدرتها المتواصلة على إعادة التموضع الرمزي والميداني شمالًا وجنوبًا، رغم كثافة الغارات والخسائر. وهذا الإدراك الإسرائيلي لم يعد تحليلًا سريًا، بل تعبيرًا علنيًا من خلال صحفها التي تعترف به بقلقٍ متعاظم من عودة الترميم العسكري جنوب الليطاني، وتدرك أن سياسة “العمليات الدقيقة” لا تكسر الطرف المقابل، بل تمنحه وقتًا لإعادة بناء قوته واستيعاب أساليب العدو.

.أما الضغوط التي رافقت المواد المتعلّقة بالسلاح غير المنفجر في الضاحية فتضيء على حقيقة أخرى أن اهتمام واشنطن باسترداده ليس موقعه “التقني”، بل الجيوسياسي والتكنولوجي. تريد أميركا منع وصول هذه التكنولوجيا إلى منافسين دوليين، وتجنّب الحرج الإعلامي والسياسي الناتج عن إثبات استخدام سلاح أميركي في العمق اللبناني. لكنّ هذه المسألة نفسها لا تُظهر قوّة النفوذ الأميركي بقدر ما تكشف حدوده فلبنان الرسمي وجد نفسه عاجزًا عن تسليمه بالكامل أو منعه بالكامل، وهو مأزق لم يكن مطلوبًا بذاته، لكنه يكشف عمليًا أن الدولة اللبنانية لم تتحوّل إلى أداة ضغط على مقاومتها كما تمنّت تل أبيب. ضمن هذا كله، تأتي زيارة دينية كبيرة إلى لبنان قام بها البابا لاوون الرابع عشر كفرصة لتسويق عنوان السلام والتهدئة، وكأن البلاد في استراحة أعياد. لكنّ مقالات الرأي تجمع على أن الزيارة تحولت، رغم رمزيتها النبيلة، إلى مرآة تكشف تناقض لبنان الرسمي أمام لبنان الحقيقي، لبنان بلد يُسوَّق بالخُطَب والبريق، بينما واقعه مرهق اقتصاديًا، متشظٍّ سياسيًا، ومحمّلٌ بصراعٍ وجودي على الحدود. المفارقة أن نتنياهو هو من يطلق “مدفع الموت” ويقدمه كهدية قسرية للبنان وسوريا والمنطقة، بينما هو في الوقت نفسه يعلن التهويل بالحرب ويهدد بالتصعيد.

.أي سلام هذا الذي تتحول فيه الدبلوماسية إلى منصة ابتزاز، والسلاح الأميركي إلى قنبلة سياسية مؤجّلة، والجنوب إلى ساحة ضغط نفسي وإعادة إعمار بالقصف؟

.النتيجة التي لا يمكن تجاهلها اليوم هي أن المشروع الأميركي–الإسرائيلي لم ينجح لا بهزيمة المقاومة، ولا بتقليب البيئة اللبنانية عليها، ولا بتوسيع بنود "1701" إلى مسار صدامي مباشر. وكل ما كان يُراد له أن يكون شرطًا للتطبيع، تحوّل إلى تأكيد أن لبنان، مهما اهتزّ داخليًا، لا يَرضخ للسلام الذي يُكتب بمدفعٍ موجَّهٍ إلى صدغه.

.لبنان اليوم ليس في حالة إنكار للحرب، بل في حالة مناعةٍ ضد الاستسلام. فالمقاومة التي تُقاتَل في الميدان وتُحارَب في الوعي وتُبتَز في السياسة، أثبتت حتى الآن أنها ليست رقمًا تفاوضيًا فقط، بل معادلة لا تتفكك بالمواعيد النهائية ولا بالغطاء الأميركي، بل بإرادة لبنانية لم تُصَنَّع بعد في مختبرات الخارج.

إسرائيل إلى زوال.

 

 


تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

المقالات الأكثر زيارة