كتاب واراء

الحرب انتهت، وحزب الله ليس مجنوناً، ولنشارك جميعًا في استقبال البابا

 

ناجي علي أمهز

هناك لحظات في التاريخ لا يطويها الزمن، بل يحفظها كصفحات مضيئة في ذاكرة الشعوب. هكذا كان الإمام الخميني، صانع الثورة الإسلامية، الذي بقي حضوره رمزًا حتى بعد الرحيل. وهكذا انتقلت الراية إلى الإمام علي الخامنئي، رجل الدولة الذي حمل أمانة الثورة بثبات. وفي لبنان، تعاقب الأمناء العامون على قيادة حزب الله، لكن صورة السيد حسن نصرالله ستبقى، بكل ما حملته من حضور وجاذبية وتاريخ، في ذاكرة الشيعة والعرب كصورة قائد من طينة نادرة.

 

إذًا، الإمام الخميني قائد عظيم، لكن الإمام الخامنئي رجل دولة عظيم، كما السيد نصرالله قائد عظيم، والشيخ نعيم قاسم رجل دولة عظيم.

 

الإسرائيلي اليوم في مأزق. فقد تغيّر حزب الله، بينما بقي التقييم الإسرائيلي عالقًا في صورة الأمس. كان يظنّ أن أيّ خليفة للشهيد السيد نصرالله سيواصل الحرب، وأنها فرصته الذهبية لتحويل الجنوب إلى غزة جديدة، وجرّ الشيعة إلى كارثة من الدم والركام، وتدمير لبنان بما يكفي لإسقاط ما تبقّى من هيكل دولته.

 

لكن حزب الله أدرك اللعبة، وقرأ المعادلة ببرودة استثنائية. فقبِل بوقف إطلاق النار، والتزم به التزامًا كاملاً، بل منع عناصره من الاقتراب من الجنوب كي لا يمنح إسرائيل ذريعة واحدة. ورغم انتهاكات إسرائيل المتكرّرة، بقي الحزب صامتًا، يردد عبارة واحدة": الدولة تتحمّل مسؤوليتها. "في هذا الصمت، وليس في الرصاص، أفشل حزب الله المخطط الإسرائيلي حتى اللحظة.

 

غير أن الإسرائيلي ما زال يعيش في سرديات الأمس، ينتظر تلك العبارة القديمة: «حزب الله سيرد». قالها الحزب مرة في بدايات الهدنة، ثم سكت. وكان الصمت ضروريًا، لأن هذه العبارة وحدها تمنح إسرائيل الحق في تفعيل أي اعتداء أو خلق ذريعة وهميّة، لذلك عندما لم تحقق المقاومة هدف اسرائيل برد من الداخل اللبناني، بدا يشيع بان حزب الله سيرد على مصالح اسرائيلية ويهودية بالخارج. 

 

لذلك استغرب بعض الأبواق، التي ترقص على إيقاع هذا الانتظار: من مراهقي المنابر، أو من محترفي التحريض كالمعمم محمد علي الحسيني الذي غرد لتحريض الشيعة وادخالهم بجهنم لانه يعرف اكثر من غيره ما يريده الاسرائيلي.

 

لسخرية القدر ان الحسيني الذي سمى اغلب الذين اغتالتهم اسرائيل غرد اليوم: "على الأزرق أن يستعد لتلقي الهجمة المرتدة القادمة من الأصفر، والتي ستستهدف بقوة النقاط اللبنانية الخمس المحتلة...". انه يريد ان يبلي الشيعة.

 

لهذا أقولها بوضوح: لتعلن قيادة حزب الله، بلا لبس، أنها لن ترد عسكريًا، وأن الردّ من الآن فصاعدًا هو واجب الدولة، لا غير. فما الذي يخشاه الحزب؟ إسرائيل قصفت قطر ولم يتحرّك العالم. ونتنياهو شرب الشاي قرب القنيطرة ولم تهتزّ شعرة في رؤوس الأنظمة او الشعوب العربية. أما في لبنان، فإسرائيل تستبيح يوميًا وتقتل أبرياء، والدولة لم ترد. فكيف نطالب الحزب بما لا تطالب به الدول نفسها؟

 

السلاح مسألة أخرى. فحق الدفاع عن الأرض باقٍ في حال اجتياح اسرائيلي بري، وهذا لا يرتبط بوجود حزب الله أو غيابه، لأن الجنوب، بطبيعته، قاوم عبر قرون. أما الأسلحة الدقيقة التي يلهج بها العالم، فهي شأنٌ تفاوضي بامتياز، يُبحث على الطاولات لا على خطوط التماس، كما تُبحث كل الملفات الكبرى، حيث يقف الأميركي والعربي… ومن حق الحزب أن يطالب بالوجود الإيراني أيضًا. هذه هي السياسة، والباقي ضجيج.

 

أما القصف الإسرائيلي لما يسمى «مخازن السلاح»، فكثيرٌ منه جزء من لعبة أعصاب لا أكثر. لو كان لدى إسرائيل معلومات دقيقة، لأبلغت الأميركي والأمم المتحدة، ولذهبت لجان الدولة إلى الموقع وصادرت الدولة اللبنانية هذه المخازن واستفادت منها، لكن يبدو ان معلومات اسرائيل غير دقيقة ولانها تخشى ان تفضح نفسها ان تسمي مخزن ولا يوجد، لذلك تقوم بالقصف لتخويف الداخل.

 

إسرائيل اليوم لا تحقق مكاسب. بل تكشف وجهها الأكثر عدوانية، بينما العالم، على الرغم من حساباته، لن يحتمل مشهد تدمير لبنان طويلًا. ولذلك، على إسرائيل أن تعترف بأن الحرب انتهت، وأن المستقبل يحتاج إلى اتفاق طويل الأمد، ربما نصف قرن، لأن كل حرب تتجاوز حدّها تتحول إلى قوة تنقضّ على أصحابها.

 

أمّا نحن — في لبنان — فعلينا أن نعيد إلى العالم صورة بلدنا الحقيقي: لبنان الرسالة، لا لبنان الجبهات. ولعلّ الفرصة الذهبية أمامنا هي زيارة قداسة الحبر الأعظم البابا لاوون الرابع عشر إلى بيروت بين 30 تشرين الثاني و2 كانون الأول 2025.

لهذا أناشد الثنائي الشيعي، وكل المتمولين في المجتمع الشيعي، أن يشكلوا لجنة وطنية لاستقبال البابا. أن يحتشد الشيعة — جميع الشيعة — على طريق المطار، رافعين صوره بخشوع، لا مجاملة للكنيسة المارونية، بل للمسيحية التي شاركت الشيعة تاريخًا وأرضًا وتضحيات، وللبنان الذي هو أكبر من الطوائف وأقوى من الحروب.

لنستقبل البابا…

لنستقبل العالم…

ولنقل للبنان: أنتَ قبل الجميع… وأنتَ الباقي فوق كل زمن.


تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد