《كتب إسماعيل النجار》
.لا يختلف اثنان على أنّ لبنان يعيش اليوم واحدة من أكثر لحظاته هشاشة على الإطلاق، اقتصادياً وسياسياً وأمنياً، وسط تدفّقٍ واضح للتدخلات الخارجية، واستمراءِ بعض القوى في الداخل لطلب الوصاية والضغط الدولي على خصومهم السياسيين خدمةً لمشاريع لا علاقة لها بمصلحة الوطن.
ليس سراً أن لبنان يقف اليوم على أخطر مفترق طُرُق على الإطلاق، في دولة مُنهكة إقتصادياً ومتصدعه سياسياً، ومُخترقه خارجياً ،بينما تتصرف بعض القِوَى السياسية وكإن البلاد مجرد ورقة في رهاناتها، أو صندوق بريد لرسائل العواصم الكبرى!
إنَّ ما يجري في الكواليس لم يعُد يحتمل المجاملة أو التخفيض من الصرخة والصوت، لأننا أمام مرحلة تغلي فيها البلاد غليان غير مسبوق، وشرارة صغيرة تكفي لإشعال ما هو أفظع من كل ما عرفناه؟.
لقد سعَت بعض القوى التي تتموضع بين “السيادية” المزعومة والارتهان المتجذّر أن تُقدّم نفسها دائماً تحت عنوان “السيادة” من أحزاب وتيارات تمتد جذورها إلى الحرب الأهلية وتنسُب دائماً لنفسها أنها المدافع الأوحد عن الدولة.
لكنّ تاريخ هذه القوى، من الحرب الأهلية وحتى يومنا هذا، يكشف بأنهم سياديون بالإسم ومرتهنون للسفارات بالفعل، ويكشف مساراً طويلاً من الارتهان للخارج، والتوظيف السياسي للطوائف، والاعتماد الدائم على الضغط الدولي لتعديل موازين القوى في الداخل.
وهذه القوى نفسها، التي تقف اليوم تحت عناوين القوات والكتائب وبعض المجموعات المتحالفة معها، لم تتردّد يوماً في فتح الأبواب لكل أشكال التدخل الأجنبي كلما احتاجت ذلك لخدمة مصالحها الفئوية.
من تحالفات 1975 إلى خيار 1982 وما بعده، وصولاً إلى استدعاء العقوبات، والحملات الإعلامية الغربية، والمنابر الدولية، بدا واضحاً أن هذه القوى ترى في الخارج الوسيلة الوحيدة لفرض مشروعها السياسي على بقية اللبنانيين… حتى لو كان الثمن تمزيق البلد.
.إن اللعبة الطائفية المقيتة وإعادة إنتاج الصراع بهذا الشكل من قِبَل هؤلاء المنحرفين وطنياً، يأتي ضمن هذا السياق، وتستمر المرجعيات السياسية التقليدية لهؤلاء في ممارسة لعبة “6و6 مكرر” [شعار الشيطان] بطريقة تُعيد إنتاج كل مظاهر الشيطنة والتوتير الطائفي، عبر محاولة السيطرة على القرار السياسي والاقتصادي للدولة من دون الاعتراف بالواقع السياسي والاجتماعي الذي أفرزته المقاومة وتضحياتها.
هذه اللعبة القذرة القديمة الجديدة تتجاهل عن عمد شريكاً وطنياً أساسياً قدّم آلاف الشهداء، وواجه الاحتلال، وحمى الحدود، وتحمل أثماناً ثقيلة عن بيئته وطائفته في سبيل بقاء لبنان على الخريطة. فبين التضحيات والمظلومية المتكررة الطائفة الشيعية، بما تمثّله من ثقل بشري وسياسي ومقاوم، أثبتت عبر عقود أنها الأكثر تضحية، والأكثر صبراً، والأبعد عن منطق الفتنة، رغم محاولات الاستهداف المستمر لها سياسياً وإعلامياً وأمنياً منذ سنوات طويلة.
ومع ذلك، تستمر بعض القوى في محاولة تحميل هذه البيئة مسؤولية كل أزمات البلد، ووصمها حيناً، ومحاصرتها حيناً آخر، وشيطنتها كلما احتاجت إلى غطاء لتحالفاتها الخارجية.
احتقان عام 2025 لا يمكن تجاهله
لإنّ هذا الاحتقان غير مسبوق نتيجة الضخ الكبير للسُم من زعانف البعض منهم، خصوصاً بعد انتهاء حرب الـ66 يوماً وما رافقها من حملات سياسية وإعلامية، أصبح يفتح الباب أمام احتمالات خطيرة إذا لم تُعالَج بجدية ومسؤولية. فالمشهد المتوتر بين بعض القوى المسيحية، كالقوات والكتائب ومن يدور في فلكهم، وبين جزء واسع من البيئة الشيعية، ليس تفصيلاً عابراً.
والمخاوف اليوم ليست على فريق دون آخر، بل على لبنان برمّته الذي قد ينزلق نحو صدام داخلي كارثي إذا استمر الخطاب التحريضي والارتهان للخارج.
.بعلبك الهرمل، والغليان الصامت.
إحذروا ما هو كبير فيها؟.
وهذه المنطقة تُعَد مثالاً واضحاً على مدى حساسية المرحلة. فالتجاوزات الأمنية فيها التي رافقت بعض العمليات تحت عنوان “مكافحة العصابات وملاحقة مطلوبين للعدالة” تركت جروحاً عميقة، خصوصاً حين تتحول الإجراءات الأمنية إلى عمليات قاسية غير مبررة بحق أبناء المنطقة.
لكنّ التجربة الأخيرة في اعتقال نوح زعيتر بطريقة هادئة ومن دون دماء أثبتت أنّ الأمور يمكن إدارتها بكفاءَة عالية وباحتراف ومسؤولية من دون الإنزلاق إلى الفوضى.
لذلك إن لبنان بين خيارين، إما التهدئة أو الانهيار. واليوم، لا يزال قرار الطائفة الشيعية مضبوطاً بوعي قياداتها، لكن المستقبل غير مضمون إذا استمرت بعض القوى في خطاب الاستفزاز، والاستقواء بالخارج، والتلاعب بالنار الطائفية.
والمؤسف أن بعض القوى التي تدّعي “حماية لبنان” لم تتعلم شيئاً من تاريخها، ولا من مآسي الحرب الأهلية، وتكرر اليوم الأخطاء نفسها التي جرّت البلاد إلى الخراب.
أيها اللبنانيون إن لبنان اليوم يقف أمام مفترق طرق خطير،
إمّا أن تنتصر الحكمة، وتُقفل أبواب التدخلات الخارجية، ويُعاد بناء الثقة بين القوى السياسية، وإمّا أن تُترك البلاد لمشاريع المغامرين الذين لم يتعلموا شيئاً من صفحات الماضي الدامي.
أُعذِرَ مَن أنذر.