*بقلم: ناجي علي أمهز*
أستيقظ كلّ صباح، وفي رأسي ألف سؤال يبحث عن ألف جواب. كأنّ على كتفي وصيّة قديمة: أن أزرع لطائفتي، تلك الشيعية المنكوبة، شجرةً تظلّل أبناءها وتُثمر لهم خيرًا في غدٍ يليق بهم.
أبحث عن الفكرة كما تبحث النحلة عن الرحيق؛ لا لذاتها، بل لتقدّم عسلاً للناس… حتى لسعتها، في أحيان كثيرة، تكون شفاءً. ولعلّي أحبّ أن أرى نفسي نحلةً، لا أفعى تتلوّن بأجمل الأصباغ لتبقى خطرًا أبديًا. وللأسف، كثرت الأفاعي حول طائفتنا؛ أفاعٍ جذبتها رائحة السلطة والمال، فالتهمت ما تبقّى من مقوّماتنا كما تلتهم النارُ حطبًا يابسًا.
إنه المال — وقد قيل فيه ما قيل — يجلب أخبث الناس، وأكثرهم قدرة على الخداع والتمثيل. هكذا انجرف إلينا من مثّلوا علينا، وخدعوا البسطاء، وأوهموا الطائفة أنهم أولياء خلاصها.
نعم… إنّ رائحة السلطة والمال، تلك التي أغدقتها الطائفة الشيعية بكرم لا حدود له، ودون مساءلة أو محاسبة، جذبت إليها أخطر المخلوقات من فصيلة "الحرباء"؛ يتلوّنون مع كل متلوّن، ويتبدّلون مع كل ريح.
هؤلاء الذين أمسَكوا بإعلام الطائفة، لم يكتفوا بإقصاء أمثالنا، بل حاربونا لأننا كنّا قادرين، في لحظة صدق، على شحذ الفكر الشيعي بمفاهيم جديدة.
أنانيّتهم لم تكن أقلَّ خطرًا من أعداء الطائفة نفسها؛ فقد دمّروا إعلامها، وأغلقوا الأبواب في وجه مثقفيها، فبلغنا هذا القاع الذي نتخبّط فيه اليوم.
اليوم كلّمني صديق مسيحي من الطينة الراقية نفسها التي صنعت كثيرين من حكماء لبنان. قال لي، بوضوح لا يحتاج تفسيرًا:
"نحن، المسيحيين، نقولها بلا تردّد: خسرنا في الفترة الماضية. نعترف، ونرفع أصابعنا العشرة، لأن الاعتراف درس… ودرس لأجيالنا. لذلك، لا أحد منا، لا في وعيه ولا في لا وعيه، مستعدّ لحمل السلاح خارج الدولة. ثمن الحرب مرعب. المهاجر عندنا شهيد من نوع آخر: غيابٌ لا ينتهي، ونقصٌ لا يرمّم".
ثم تابع، بكثير من الواقعية:
"أمّا الشيعة، فلم يُنكِر أحد شجاعتهم. قاتلوا بإيمان وقوة وتماسك… وصمدوا. لكن لا تستطيع الطائفة أن تقول إنها انتصرت. ليس عيبًا الاعتراف؛ فلا قياس بين قدرات إسرائيل العسكرية وأيّ مكوّن في المنطقة. ثمّة بطولة، نعم… لكن ثمّة واقع.
اليوم، المطلوب من الشيعة أن ينتقلوا من عبقرية الحرب إلى عبقرية السياسة.
للأسف، يبدو أنهم فقدوا السياسة. معارضوهم سطحيون، جلّ همّهم تسجيل النقاط لا بناء البدائل. هكذا يتحوّلون، بلا قصد، إلى أدوات تُستخدم لضرب بنية الطائفة.
نحن، المسيحيين، حين وقعنا في الأزمة، تقوقعنا حول وحدتنا. رفضنا المشاركة في السياسة وقاطعنا الانتخابات. أنا لا أقول لكم قاطعوا الانتخابات، لكن أنتم تخسرون كل يوم لأنكم لا تحددون وجهتكم السياسية، ولا تجمعكم فكرة واحدة كما جمعتكم وحدتكم العسكرية".
أضاف صديقي: "قاطعنا السياسة لأنه لم يكن لدينا شيء نقوله، صمتنا حتى مزقت الأسنان الشفاه؛ فالخطأ في السياسة أكثر تكلفة من الحروب. وكأنّ الطائفة فقدت كاتب السيناريو لها، فأصبح كل واحد يتحدث بـ"جملة"، لكنها ليست منسجمة أو مرتبة بسياق ينتج ملحمة أو مشهدية متكاملة".
أسأل نفسي، وأسأل القارئ والقيادات الشيعية وأهمهم رجال الدين الذين نقدسهم: أين هي مراكز البحوث التي كُلِّفت مئات آلاف الدولارات؟ ما الذي قدّمته غير حفلات "استقبل وودّع"؟
أين الفضائيّات التي كلّفت الملايين، ومديروها الذين بات كلٌّ منهم يظن نفسه "كيسنجر" أو "أرخميدس" زمانه؟ ماذا أفادت الطائفة؟ لا حرب إعلامية ربحت، ولا رأي عام صنعت… إنما اشترى أصحابها القصور والسيارات والسفرات، وتركوا الناس لقدرهم.
أين… وأين… وأين؟ كل هؤلاء الذين عجزوا عن تقديم فكرة، وعملهم هو التفكير!
أسئلة تتوالد كأنها مقدّرة أن تبقى بلا جواب.
لقد ردّدوا ما قيل لهم كالببغاوات، ومسحوا الأكتاف ومسخوا السياسات، ثم اكتشفنا، بعد جهد جهيد، أنهم لم يفسّروا الماء إلا بالماء.
ولعلّ الحكمة التي قالها الإسكندر الأكبر، وعلّمها له أرسطو، تصلح اليوم أكثر من أيّ وقت:
"أصغِ لمن ينتقدك… فهو يريك الجانب الآخر. واحذر ممّن يربّت على كتفك دائمًا… فهو آخر من يريد مصلحتك".
هذا المقال ليس جلدًا للذات، بل محاولة لاستعادة الوعي.
ليس دعوة للانكسار، بل دعوة لئلا يُهزَم العقل بعد أن صمد الجسد.
فمن لا يتقن السياسة في زمن اللا حرب… قد يخسر ما قدمته الارواح وصمد لأجله الجسد في زمن الحرب.
يجب أن تستيقظ عقولنا لنكتب بقاءنا ومستقبلنا.