كتاب واراء

سقوط الأقنعة وصعود الإيديولوجيات بزمن الصمود

 

 

بقلم: محمد هاني هزيمة

كاتب ومحلل سياسي – خبير استراتيجي

 

في عصرٍ غلب فيه الزيفُ الحقيقة، وارتدى الجبناءُ أقنعةَ الأبطال، وتساقطت أوراقُ التوت عن وجوه كثيرة هو زمن السقوط الأخلاقي والتزييف الإعلامي والتصفيق للباطل زمنٍ ارتفعت فيه أصواتُ الشعارات وانخفضت القيم، وتاه الناس مع الضجيج… ورغم ذلك بقي شعبٌ لا يخاف، يواجه ولا يختبئ في الزوايا اختار الحق صرخ أحياناً وصمت كثيراً، لكنه لم يستسلم شعب استعدّ وتحمل انتصر ولم يتباهَ، وقرر بناء مجده من الصمود في زمنٍ صعدت فيه الإيديولوجيات بقيت ايديولوجيته الكرامة صمد فاستعاد دوره صعدت من بين الركام كما تصعد الفقاعات في ماء راكد، ليظل صامداً، لأنه شعبٌ حقيقي عرف وجعه والتصق بالتراب، ودفن أبناءه فيه.

اقتنع أنه قادر على الصمود بإيديولوجيا إيمان بقضية حق إيمانٌ ثابت مهما طغت الظروف وأسبابها ومبرراتها وأنصاف الحلول تبقى مجرد نظريات غير قابلة للحياة إلا إذا اقترنت بالوعي، والتضحية، والعزيمة، وفهم الواقع وخطورة ما هو قادم… شعب يواجه بإرادة وفعل مقاوم، يقدم عرقاً ودماً، ليكتب بحبر الوجود تاريخاً محفوراً ليس على حجارة، بل في صميم المستقبل بوطنٍ يتأرجح وجوده بين السقوط والصعود، لكنه لا يموت ما دام شعبه يحبّ الحياة بكرامة، تماماً كما الجذور التي لا نراها لكنها تمسك الأرض من قلبها غنهم جزء من شعوبٍ علمتها الحروب طعم الحياة بالكرامة ومعنى الحرية. تعلّموا من الحصار كيف يكون الحلم وفي غزة مثالٌ حيّ لمدينة محاصرة حاصرت العالم بكرامتها: تُقصف فتنـهض، تُجوَّع فتُطعم المعنى، تُخنق فتتنفس في صدر الأحرار في زمن سقوط الأقنعة، لن يبقى إلا الشعب الواعي لا تجار المواقف، ولا السياسيون المنافقون، ولا المنظّرون، او من ارتضى أن يكون مرتزقاً في مشروعٍ معادٍ، يواجه من اختار أن يكون حجر زاوية في بناء وطنٍ للدفاع عنه.

شعب لم يرضَ السقوط، ولم يقبل أن يبيع نفسه مطية، أو يكون مستهدفاً بوجوده، وكل جريمته أنه حمل الوطن على ظهره كأم تحمل طفلها الجائع لا تتركه مهما اشتد الجوع.

قد تُكسر البنادق، تصمت الخطب، لكن لا شيء يستطيع أن يطوي صفحة شعب اختار أن يقف ولو بقي وحيداً، يواجه السقوط بإرادة لا تُهزم، ما دام يعرف أن الأوطان تُبنى بالتضحية، لا بأوهام وفي الشهيد محمد عفيف مثال البطل والقائد في قلو قادة شهداء عرفوا ان الوطن ينتصر بالدم لا بالتصفيق.

نعم إنه زمن سقوط الأقنعة ولن يبقى على المسرح سوى من وُلد حراً، وإذا مات، يبقى واقفاً لا يركع ولا يخضع، يواجه مصيره بإصرار وعزم، يعرف حدود المواجهة وأبعادها، ويدرك أنه في قلب عاصفة قد تتحول إعصار يبدل معالم المنطقة كلها

ومؤسفٌ أن البعض راهن عليها ليعيد عقارب الزمن إلى الوراء نحو وهم أمجادٍ كانت سبب الحرب الأهلية في لبنان، الوطن القابع على فالق زلزال صراع مشاريع دولية تواجه استقرار المنطقة، وتسعى لتبديل معالمها البشرية والسياسية، وتفتيت جغرافيتها، أوطانٌ رسم حدودها الاستعمار ليضمن سيطرته، بعدما فقد شيئاً من بريقه أمام متغيرات دولية لم تعد تناسب مرحلة الأحادية الأميركية، ولا التحكم بمقدرات الأمم وثروات الشعوب والشرق الأوسط جزءٌ أساس من هذا الصراع بما يملكه من موارد، وممرات مائية، وموقع جغرافي، ودور إسرائيل الوظيفي قاعدة متقدمة لحماية المصالح الأميركية، بقوة وتأثير يتحكمان بالتجارة العالمية وبمستقبل المنطقة، عبر تدجين شعوبها وإغراقها في صراعات اتجزئتها كيانات مذهبية ، ومع كل ذلك يبقى الهدف إنهاء كل أشكال الرفض والمقاومة التي تشكل سداً أمام مشروعهم الاستعماري، وعلى رأسها صمود لبنان بمقاومته وعجز العدو الإسرائيلي عن تطويعها أو القضاء عليها ميدانياً، رغم حجم الخسائر وما يملك من قدرات ودعم وتواطؤ دولي، وانغماس أميركي مباشر بخطوط إمداد مفتوحة ودعمٍ استخباري غربي-عربي حتى وصل الأمر إلى استخدام النفوذ الأميركي لتغيير الواقع السياسي في الداخل اللبناني خارج التوازنات، وصولاً لتنفيذ انقلاب سياسي مقنّع تقوده مواقع وتيارات تبنّت مقررات تضمن أمن العدو على حساب الاستقرار الداخلي، في سابقةٍ لم تقدم عليها حكومات تحت الاحتلال في حملة تضليل وافتراء تبرر للعدو وتنتظر مشروع دولةٍ بمعايير عنصرية تعيد لبنان إلى زمن الكانتونات والحواجز الداخلية، وصعود إلى السلطة على دبابة العدو، وفرض شروطه على وقع البوارج الحربية والقوات المتعددة الجنسيات التي حضرت لدعم الاحتلال الصهيوني وخرجت ذليلة.

واليوم، نحن أمام محاولة جديدة، بليلٍ جديد، وأدواتٍ أكثر تطوراً، أضيف إليها سقوط النظام في سوريا، وتوسع التطبيع العربي، وحجم الهجمة الأميركية والإجرام الإسرائيلي، ما جذب المراهنين وأسقط أقنعة كثيرة، كشفت زيف شعارات جمعتهم بالأمس وشتّتهم اليوم كان الهدف واحدا حتى جاء من قاد القطيع بعصاه المذهبية، فانقلب على ماضيه، وسار في قافلة اللاهثين ركضاً نحو الاستسلام ، استسلامٌ أسقط الأقنعة وجمع المتناقضات السياسية في مواجهة لا تحتمل أنصاف الحلول:

إنها معركة بقاء، وحرب وجود، وحفظ هوية.


تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

المقالات الأكثر زيارة