بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
يحاول العدو الإسرائيلي استعادة الصورة التي اغتر بها وتغطرس في اليوم التالي لعملية طوفان الأقصى، عندما تداعى قادة وزعماء دول العالم، وفي مقدمتهم الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن، ورئيس الحكومة البريطانية والرئيس الفرنسي، وعشرات المسؤولين والرؤساء، الذين هبوا للتضامن معه، وغطوا حربه على قطاع غزة، وأيدوا رئيس حكومته بنيامين نتنياهو، ودعموا حربه المفتوحة المسعورة، وزودوه بكل ما يحتاج إليه من عتادٍ وسلاحٍ وصواريخ وذخائر، وأيدوه في المحافل الدولية، ودافعوا عنه من أعلى المنابر السياسية والإعلامية، واستخدموا لصالحه حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي مراتٍ عديدة، وأيدوا استمرار الحرب ومواصلة القتال حتى تحقيق الأهداف الإسرائيلية التي تبنوها.
لكن صورة التضامن الدولي قد تبددت، وحجم التأييد الشعبي للكيان قد تشتت، وذريعة المشروعية الدولية قد سقطت، ودعوى المظلومية قد انهارت، ولم تعد دولة تؤيده وتسانده، وتقف إلى جانبه وتساعده، بل باتت تشعر بالخزي من دعمه، والعار من الدفاع عنه، وتنأى بنفسها عن سياسته، وتعلن البراءة من جرائمه، وانفضت من حوله رسمياً الدول والحكومات، وتخلت عنه وابتعدت، واستنكرت حربه ودعت إلى وقف عدوانه، وانتقدت سياسته وسعت إلى عزله دولياً، وهو مشهدٌ دوليٌ لم يشهد الكيان مثله منذ أن تأسس، ولم يكن يتوقع أن يأتي يومٌ يكون فيه منبوذاً سياسياً ومكروهاً شعبياً.
لكن الجانب الأسوأ الذي يعاني منه الكيان الصهيوني اليوم، وإن انتهت الحرب وتوقف القتال، وفرضت خطة ترامب للسلام عليه بالقوة، هو الانفضاض الشعبي العالمي، وتراجع التأييد له في صفوف الأجيال الشابة الأمريكية والأوروبية، إذ تشير استطلاعات للرأي أن أكثر من 56% ممن هم دون ألـــ 45 سنة في الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا باتوا ينتقدون السياسة الإسرائيلية ويتظاهرون ضدها، ويؤيدون القضية الفلسطينية ويقفون إلى جانب غزة وأهلها، ولا يترددون في الهتاف لفلسطين ورفع أعلامها، والدعوة لحريتها واستقلالها.
ولعل فوز الشاب المسلم اليساري زهران ممداني بمنصب عمدة نيويورك هو الإشارة الأوضح لمدى التراجع الشعبي الأمريكي في تأييده التاريخي للكيان الصهيوني، خاصةً في هذه المدينة الأمريكية الأولى، عاصمة الاقتصاد، ومدينة كبار رجال الأعمال المؤيدين للكيان، والمدينة التي تضم أكبر تجمع يهودي في العالم بعد فلسطين المحتلة، التي انتخبت بأصواتٍ يهودية أيضاً شاباً مسلماً يعارض سياسة رئيس بلاده دونالد ترامب، ولا يخفي تضامنه مع الفلسطينيين وتنديده بالحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، بل وإعلانه الصريح خلال حملته الانتخابية عن عزمه في حال فوزه بمنصب عمدة نيويورك، اعتقال رئيس حكومة الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو في حال دخوله نيويورك.
لا يبدو أن الأوضاع ستعود كما كانت ذهبية وردية حالمة مع الكيان الصهيوني، فالزمن "الجميل" الذي تمتع به لسنواتٍ منذ تأسيسه قد وَلَّى ولا أظنه سيعود كما كان، وهذا ما يدركه الإسرائيليون أنفسهم، الذين باتوا يتوارون عن الأنظار، ويبتعدون عن الأضواء، ويخفون هويتهم ولا يظهرون جنسيتهم، ويمتنعون عن الحديث أمام العامة باللغة العبرية، وهم الذين كانوا يفاخرون بجنسيتهم، ويتعالون بديانتهم، ويتمايزون بساميتهم، ويفرضون على دول العالم "أتاواتٍ" تكفيراً عن دورهم في "الهولوكوست"، ويجبرونهم على تلاوة أسفار التوبة والندامة، ويحملون الأجيال القادمة أثماناً هم براء منها وفي غنى عنها.
أمام هذه الحقيقة الدامغة، التي تثبتها الوقائع، وتظهرها الأحداث التي باتت تتكرر في مختلف المناسبات، كالملاعب الرياضية التي يطرد منها الرياضيون الإسرائيليون، ويسقط على الأرض علم كيانهم، ويستبدل بالعلم الفلسطيني الذي أصبح يرفرف في سماء الملاعب الدولية، وكذلك الحال في المحافل العلمية والثقافية والفنية، حيث يطرد الإسرائيلي منها ويحرم من المشاركة، فضلاً عن الملاحقات الجنائية الدولية لعددٍ كبيرٍ من جنود جيش كيانهم وضباطه، الذين باتوا يخشون السفر، ويعودون إلى الكيان تهريباً بأسماء وهمية وجنسياتٍ أجنبية، والموانئ الدولية والأرصفة البحرية التي يمنع عمالها السفن الإسرائيلية من الرسو فيها، أو تقديم الخدمات لها.
إزاء هذه المستجدات والوقائع عمدت حكومة العدو عبر وزارة الخارجية وغيرها، إلى التعاقد مع كبرى الشركات الدولية المعنية بالترويج وإعادة رسم الصورة، وخلق محتوى إيجابي جديد، وشركات التواصل الاجتماعي مثل التوك توك والفيسبوك وتويتر (X) وتليجرام وإنستاجرام ويوتيوب وغيرها، لبث صور جديدة عن الكيان الصهيوني، تظهر مظلوميته، وتشرع عدوانه، وتبرز ما تعرض له مستوطنوه، وتعيد نشر صور السابع من أكتوبر2023، وتسلط الضوء على ما قامت به كتائب عز الدين القسام، وقوى المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، لخلق رأي عامٍ جديد يؤيد سياستهم ويتفهم ما قام به جيشهم، ويدين الفلسطينيين وينتقد ما قامت به مقاومتهم، وتصف احتجاز جنودهم بالرهائن، وأنه عمل غير إنساني وشنيع، إلا أنها ورغم ملايين الدولارات التي تدفعها، وكبار العقول الذين توظفهم، ومتانة التحالف الذي تبنيه، باتت ضعيفة وتهزم أمام السردية الفلسطينية التي أضحت أقوى من سرديتهم، وأصدق منها وتفضحها.
يتبع ......