كتب إسماعيل النجار
أصدر حزب الله بياناً مفتوحاً موجهاً إلى الرؤساء الثلاثة في الجمهورية اللبنانية وإلى الرأي العام الداخلي، في خطوة غير مألوفة بهذا المستوى من العلنية، ما يعكس حساسية المرحلة السياسية والأمنية التي تمر بها البلاد في ظل الخروقات الإسرائيلية المستمرة لوقف إطلاق النار المُعلن في 27 تشرين الثاني 2024. يحمل البيانُ رسائل متعددة المستويات تتجاوز الإطار الإعلامي التقليدي، وتندرج ضمن سياق تثبيت معادلات جديدة في الصراع مع الكيان الصهيوني ولجم الضغوط الدولية على لبنان.
.من الخلفية القانونية والاستراتيجية للبيان يستند الحزب في عرضه إلى القرار الدولي 1701 الذي ضبط قواعد الاشتباك بعد حرب تموز 2006، وإلى إعلان وقف إطلاق النار الأخير كآلية تنفيذية له. فيذكّر البيان بأن المنطقة المحددة جنوب الليطاني مُلزَمة بخلوّ السلاح والمسلحين، مقابل انسحاب إسرائيل خلف الخط الأزرق، أي أن الالتزام متبادَل وغير أحادي.
البيان يُلفت النظر إلى أن لبنان التزم بالهدنة. وإسرائيل خرقت الاتفاق “براً وبحراً وجواً”. وهي تحاول إعادة تدوير الهزيمة عبر المفاوضات. في المقابل هذا الإطار القانوني ليس تفصيلاً، بل لوضع الخلاف في خانة انتهاك إسرائيلي للقانون الدولي، وليس مجرد اشتباك حدودي تقليدي.
.ثانياً: تفنيد محاولة فرض نزع السلاح
يشير فيها الحزب بوضوح إلى أن بعض الأوساط الحكومية قدمت موضوع “حصرية السلاح” كمبادرة حسن نية تجاه الغرب، وأن العدو استثمر ذلك للمطالبة بنزع السلاح على مستوى لبنان كلّه، بينما لم يرد هذا الشرط في إعلان وقف إطلاق النار، ولا في نص القرار 1701. هذه الفقرة من البيان هي أشد النقاط حساسية، لأنها تحمل رفضاً استراتيجياً لربط المسألة الدفاعية بضغط خارجي، وتؤكد أن أي نقاش حول السلاح يجب أن يأتي ضمن استراتيجية وطنية شاملة، وتوافق داخلي، ورؤية دفاعية جامعة.
.هذا التحديد يقفل الباب على المبادرات الغربية التي تسعى لتحويل ملف المقاومة إلى ورقة مساومة.
ثالثاً: رفض الانجرار إلى جولات تفاوض جديدة تحت عناوين مغلفه!. ويعترض الحزب على ما يسميه “الأفخاخ التفاوضية”، ويعتبر أن أي دخول في مسارات تفاوضية إضافية يُشكّل مكسباً مجانياً للعدو. ذلك يعني أنّ الحزب يرى أن إسرائيل تسعى لنيل ما عجزت عنه بالقوة عبر الطاولة، تريد إضعاف الدولة اللبنانية داخلياً، تطمح لانتزاع اعترافٍ لبناني بمصالحها في فلسطين. وبالتالي، يرفض البيان أي مفاوضات سياسية مباشرة أو غير مباشرة، خارج الإطار التقني المتصل بوقف الاعتداءات.
رابعاً: لتثبيت الفرق بين“حق الدفاع” و“قرار الحرب” يطرح الحزب مقاربة دستورية جديدة؛ هي الدفاع عن لبنان وهذا ليس قرار حرب، لأن المقاومة تردّ على حرب مفروضة هلى وطنها وليس العكس.
.هذه العبارة القانونية تشكّل أساساً جديداً لشرعية الرد العسكري من دون انتظار قرار مركزي، وتعتبر أنّ الاعتداء هو العملية الافتتاحية وليست الردود اللبنانية.
خامساً: رسالة الحزب الداخلية والبيان موجّه بوضوح إلى القوى السياسية المترددة، مع وجود شرائح مجتمعية تخشى الحرب، وأطراف أخرى تراهن على الضغط الأجنبي لوقفها. وهذا أمر فيه تأكيد على أن العدو يستهدف لبنان كلّه، وليس حزب الله تحديداً، لذلك إن أي ضعف داخلي سيُترجم تنازلاً استراتيجياً. والهدف اليوم هو تحصين الجبهة الوطنية ضد محاولات التفكيك السياسي.
سادساً؛ الرسالة الخارجية المتلقي كمها غير المعلن هو الولايات المتحدة، وإسرائيل، ووسطاء الأمم المتحدة.
اللغة الدبلوماسية القاسية تعني
لا تفاوض سياسي، ولا تنازل عن السلاح، ولا استدراج إلى اتفاق جديد.
سابعاً؛ هل هو إنذار أخير؟ من خلال تتبع النبرة والعبارات، يمكن استنتاج التالي
من مؤشرات الإنذار.
1. التحذير من استمرار الخروقات.
2. تحديد خطوط دفاع “وجودية”.
3. تذكير بحق “الدفاع المشروع”.
4. الإشارة إلى صبر شعبي يتحمّل “الظلم والعدوان”وهذه مفردات تستخدم عادة قبل تغيير قواعد الاشتباك.
.أيضاً من مؤشرات التأطير السياسي
1. الدعوة إلى وحدة وطنية.
2. التمسك بالقرار 1701 كمرجعية.
3. تجنّب تحديد مهلة زمنية.
هذا يعني أن الحزب لا يريد الحرب، لكنه جاهز لها بالكامل. وبالتالي ؛البيان ليس إعلان حرب، لكنه إنذار عالي السقف يمنح الدولة فرصة أخيرة لإجبار العدو على الالتزام قبل انتقال المواجهة إلى مستوى آخر.
ثامناً: لماذا البيان الآن؟ وتوقيته مرتبط بثلاثة عوامل. الأول التصعيد إسرائيلي في الأسابيع الأخيرة داخل العمق اللبناني.
2. مؤشرات دولية لدفع لبنان نحو تنازلات سياسية.
3. تململ داخلي وبعض المواقف التي تُفسَّر ضعفاً. بينما الحزب يريد ضبط النقاش الداخلي، ومنع الانزلاق إلى تنازلات تفاوضية، وتحميل الدولة مسؤولية الضغط الدبلوماسي.
تاسعاً: ما الذي ينوي الحزب فعله؟ فمن قراءة السياق، يُمكن توقع؛ رفع مستوى الردع عند الحدود الجنوبية،
وتفعيل المسار الدبلوماسي غير المعلن عبر الوسطاء، وإعادة صياغة قواعد الاشتباك إن استمرت الخروقات،
بالإضافه إلى تحريك الرأي العام اللبناني لتعزيز الموقف التفاوضي للدولة.
وقد لا تكون الخطوة التالية عسكرية مباشرة، بل تأتي عمليات نوعية محسوبة، مترافقه مع ضغط استخباري من قِبَل المقاومة، وتسريب رسائل قاسية للقيادة العسكرية الإسرائيلية.
عاشراً: الدلالات السياسية للفقرة الختامية إلى أن إصرار الحزب على عبارة “وطناً نهائياً لجميع أبنائه” تحمل
تكريس الانتماء الوطني اللبناني وليس الإقليمي. وإحباط الخطاب الذي يتهم المقاومة بأنها “دولة ضمن دولة”.
وهذا توظيف ذكي في المعركة الإعلامية.
إذاً البيان هو وثيقة استراتيجية ذات أهداف متعددة تهدف لتثبيت الشرعية الدولية لسلاح المقاومة.وتحميل إسرائيل مسؤولية خرق وقف النار.
وتحصين الدولة من الضغوط الغربية.
وردع القنوات السياسية التي تروّج لتحييد المقاومة. والتلويح بتصعيد محسوب إذا استمرت العربدة الصهيونية.
.إذاً نحن نعتبره إنه إنذار شبه أخير ولكن بصياغة دبلوماسية، يعطي الدولة مهلة لتفعيل أدواتها دون تحديد سقف زمني أو آلية محاسبة، كي لا يُفهَم البيان إعلان مواجهة فورية.
.لبنان اليوم يدخل مرحلة دقيقة تتطلب
وحدة استراتيجية، وتماسكاً داخلياً، ووعياً وطنياً يميز بين الضغط الدولي وحق الدفاع. والحزب أعلن بوضوح أنه لن يقبل تحويل الانتصارات العسكرية إلى خسائر سياسية، وأن أي محاولة لانتزاع سلاحه عبر التفاوض ستُواجَه بصلابة ميدانية وقانونية وإعلامية.
واتضح أن المعادلة النهائية التي يكرّسها البيان هي السيادة أولاً، والكرامة الوطنية ثانياً، والدفاع حق لا يُساوم عليه.
بيروت في،، 7/11/2025