*بقلم: ناجي علي امهز*
مقدمة:
تتجلى محنة العقل في عالمنا الإسلامي، وخصوصًا العربي، في تحليل الظواهر من قشورها السطحية. فنحن نعيش ثقافة القطيع، حيث التناقضات والصراعات جزء أصيل من هويتنا، دون أن نكلف أنفسنا عناء الغوص في الأعماق لفهم الأشخاص، وتفكيك توجهاتهم، وإدراك ما يمكن أن يقدموه من خدمات جليلة لمجتمعاتهم.
اليوم، يصفق العالم العربي احتفاءً بأن عمدة نيويورك "مسلم". لكن هذا الاحتفاء يتوقف عند هذه الكلمة، فهو يخدم سردية "انتصار الإسلام" وتمدده في قلب الغرب. ولو تجرأ أحد ليقول إنه مسلم "شيعي"، لصمتت الأبواق. فلو كان هذا المسلم من قبيلة قريش نفسها وطعن أمريكيًا، لتسابق الإعلام العربي لنسبه إلى الشيعة، وربطه بالنجف أو قم. أما وهو منتصر، فيكفي أن يكون "مسلمًا" من نسل قريش، حتى وإن كان ذلك محض خيال.
إن الهدف من هذا المقال هو كشف المسار الخفي الذي أوصل المسلم الشيعي، زهران ممداني، إلى عمودية نيويورك—قلب العاصمة الأمريكية—وفي الوقت نفسه، شرح آليات بناء السلطة العالمية وكيف تنجح اللوبيات في فرض إرادتها على المسرح الدولي.
عندما بدأت حظوظ الديمقراطي زهران ممداني ترتفع، ألقى الحزب الجمهوري بكل ثقله في المعركة، مدركًا أن هذا الفوز سيترك تداعيات عميقة ليس فقط على أمريكا الحديثة، بل على الانتخابات الرئاسية القادمة. كانت استراتيجيتهم الأولى هي شيطنة هويته الإسلامية.
أطلق الجمهوريون حملة دعاية عنيفة تتهمه بأنه "مسلم متطرف" ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين، وضخوا كمًا هائلاً من الفيديوهات والصور التي تظهره في المساجد أو في لقاءات مع الجاليات المسلمة. وقد لخصت النائبة الجمهورية نانسي ميس هذه الحملة في تغريدة شهيرة:
"لقد قدمنا مشروع قانون بعنوان "جماعة الإخوان المسلمين منظمة إرهابية"، لأنه قد حان الوقت لنسمي الأمور بأسمائها الحقيقية... وفي الوقت الذي يحتضن فيه المتطرفون مثل ظهران ممداني جماعات متطرفة مرتبطة بإرهابيين إسلاميين وحركة حماس، نحن نضع أمريكا أولاً ونقف ضد الإرهاب."
كادت هذه الحملة أن تطيح بممداني. لكن الحزب الديمقراطي، الذي اكتسب خبرة عميقة من تجربة الرئيس السابق باراك حسين أوباما، كان مستعدًا. فالدولة العميقة في أمريكا وإنجلترا تميز بقوة بين المسلمين الشيعة وبقية الطوائف. تدرك النخبة الغربية أن المذهب الشيعي، تاريخيًا، هو مذهب حوار وانفتاح، وقد تم تسويقه في الغرب عبر حلفائه من مسيحيي الشرق، وتحديدًا الكنيسة المارونية.
وكما استفاد أوباما من إبراز اسم "حسين" ليمايز نفسه عن التيارات السنية المتطرفة، كانت الاستراتيجية المضادة هي إظهار زهران ممداني لهويته الشيعية بوضوح، لنفي أي صلة له بالإخوان أو غيرهم من الجماعات.
بعد أن فشلت حملة "تطرف اسلمة" زهران ممداني، انطلق الحزب الجمهوري في حملة موازية، واصفًا ممداني بأنه "اشتراكي شيوعي". وكما كان جَهَلةُ العرب سابقًا يخلطون بين الشيعي والشيوعي، تبنى الرئيس دونالد ترامب هذه السردية شخصيًا، واصفًا ممداني في ذروة الحملة بأنه "شيوعي صغير يريد تدمير نيويورك"، متعهدًا بأن "أميركا لن تكون شيوعية أبدًا".
وهنا، تدخلت الماسونية بكامل ثقلها، إكرامًا لوالده، الأخ الماسوني محمود ممداني. قامت الآلة الإعلامية الماسونية بالرد بكثافة، مقدمة تصحيحًا دقيقًا: زهران ممداني اشتراكي بالفعل، ولكن ليس "اشتراكيًا شيوعيًا"، بل "اشتراكي ماركسي". وكما كان كارل ماركس ماسونيًا، فإن والده المفكر والكاتب المرموق، محمود ممداني، هو أيضًا اشتراكي ماسوني.
لكن الضربة القاضية التي حسمت المعركة كانت مقالًا ماسونيًا نُشر قبل أيام من الانتخابات، صيغ بأسلوب "الكابالا" وعلوم الأعداد التي تسيطر على الوعي الباطن الأمريكي. جاء المقال تحت عنوان:
"زهران ممداني على وشك أن يصبح أول عمدة مسلم في تاريخ نيويورك، وذلك في عيد ميلاد الماسونية، الموافق 24 يونيو 2025."
هذا المقال لم يكن مجرد تحليل، بل كان نبوءة ورسمًا للمستقبل باستخدام علوم الأرقام، وقد جاءت نتائجه مطابقة للواقع بدقة متناهية، ليثبت أن بعض المعارك لا تُحسم في صناديق الاقتراع، بل في دوائر أكثر عمقًا وسرية.
في الختام، يتجاوز هذا المقال مجرد كونه تحليلًا سياسيًا، ليكون مرآة للآليات الخفية التي تُصنع بها القرارات وتُدار بها اللوبيات للسيطرة على العالم. ويُظهر كيف يمكن لفرد واحد، مسلح بالمعرفة والرؤية، أن يُحدث تغييرًا جذريًا. وفي هذا السياق، يتجلى عِظَمُ الطائفة الشيعية وقدرتها على إنجاب قامات فكرية مؤثرة في مختلف أنحاء العالم.
ولكن، ومن منطلق الحرص على هذا الإرث، يأتي اعتراضنا على ما يسمى بـ "الإعلام الشيعي" الذي ظهر بعد عام 2012. فهذا الإعلام وُضع في أيادٍ لا تنتمي للشيعة، وقدم صورة لا تشبهنا. فالشيعة، عبر تاريخهم، لم يكونوا يومًا شتامين أو محرضين، ولم يحتفوا بالبراميل المتفجرة التي كانت تُلقى على أطفال سوريا.
لقد قام هذا الإعلام الطارئ بتدمير صورة الطائفة، وقوّض فرصة تاريخية امتدت لربع قرن، حين سُمِحَ لنا بالامتداد الحضاري من طهران إلى بيروت فيما عُرف بـ"الهلال الشيعي".
هذا الاعلام قدم للعالم نسخة مشوهة عن المسلمين الشيعة، عربًا وفرسًا، وهو اليوم لا يقتلنا فحسب، بل يمهد لانهيار أكبر. ولهذا أقول بملء الثقة: تذكروا كلامي، هذا الإعلام كما اسقط شيعة لبنان، سيسقط النظام في إيران قريبًا جدًا. والسبب ببساطة، أنه سُلِّم إلى أيادٍ غريبة باعتنا شعارات زائفة، ودمرت إرثًا تاريخيًا من الحوار والمعرفة، كان هو الضمانة الحقيقية لوجودنا في العالمين العربي والغربي.