كتب رياض الفرطوسي
كثيرون يعيشون داخل حدود غير مرئية، يظنون أن ما يرونه هو العالم كله، وأن ما اعتادوه هو الحقيقة الوحيدة الممكنة. يكرّرون الأيام كما لو كانت قدراً مغلقاً لا يمكن تغييره، يعيشون في مساحة محدودة من التجارب، والمشاعر، والأفكار، دون أن يخطر ببالهم أن ما وراء تلك الحدود عالم آخر يتنفس بطرق مختلفة.
يولد الإنسان في بيئة تصوغه قبل أن يعي نفسه. تتكاثر حوله التقاليد، والآراء، والصور الجاهزة حتى تغدو جدراناً تحيط به من كل جانب. ومع مرور الوقت، يتحول المألوف إلى قيد، ويصبح الراحة في السكون بديلاً عن الحرية في الاكتشاف. إن أخطر ما يمكن أن يحدث للإنسان هو أن يعتاد القيد حتى يظنه جزءاً من تكوينه.
لكن اللحظة التي يخرج فيها أحدهم من تلك الدائرة المغلقة، تكون كاشفة وصادمة في آن واحد. يكتشف أن هناك وجوهاً أخرى للحياة، وألواناً لم يرها من قبل، وتجارب لم يكن يظن أنها ممكنة. يدرك أن ما كان يسميه “العالم” ليس سوى زاوية صغيرة من مشهد هائل، وأن الواقع الذي نشأ عليه لم يكن سوى نسخة محدودة من احتمالات لا حصر لها.
المؤسسات، والمجتمعات، والتقاليد — مهما بدت قوية — لا تصنع حدود الوجود، بل حدود الوعي. هي تخلق تصورات لما يجب أن نكونه، وتتركنا نظن أننا نختار بينما نحن نتحرك داخل خريطة رسمها الآخرون. غير أن الإنسان الذي يقرر أن يسأل، أن يشكّ، أن يعيد النظر في ما قيل له، يبدأ رحلة التحرر الفعلية.
الواقع لا يقيم فقط في الصورة التي نراها، بل في الطبقات الخفية من التجربة: في التفاصيل الصغيرة التي تمر دون انتباه، في الإشارات التي لا يلتقطها إلا من يملك بصيرة مفتوحة. الفنانون والمبدعون يدركون هذه الحقيقة؛ فهم ينظرون إلى ما يتجاهله الآخرون، لأنهم يعرفون أن الجمال يسكن الهامش لا المركز، وأن الحياة تختبئ في ما يُظن أنه عابر.
الحياة ليست طريقاً واحداً، ولا وصفة جاهزة للنجاة. إنها احتمالات تتجدد مع كل تجربة، ومع كل قرار جريء بأن نرى العالم بعيوننا نحن. بعد العواصف تنبت الأشجار من جديد، وبعد كل خسارة يخرج شكل آخر من المعنى. لا شيء نهائي سوى التغيّر نفسه.
التحرر لا يعني كسر القيود فحسب، بل القدرة على إدراك وجودها أولاً. أن نعي أن الخوف من التغيير هو السجن الحقيقي، وأن الشجاعة لا تكون في المغامرة فقط، بل في الصدق مع الذات حين تسأل: “هل ما أعيشه هو فعلاً ما أريد؟”
ما وراء القيود ليس وهماً ولا وعداً مؤجلاً. إنه واقع ينتظر من يراه، من يجرؤ على اكتشاف الحياة كما هي، لا كما صوّرها له الآخرون. فكل خطوة نحو المجهول، هي في الحقيقة عودة إلى الذات الأولى — الذات التي خُلقت لتختار، لا لتُساق.