*بقلم: ناجي علي أمهز*
جاءت كلمة الشيخ نعيم قاسم في حفل إطلاق كتاب “الغناء والموسيقى – بحوث للإمام الخامنئي”
كنغمةٍ سياسيةٍ في مقامٍ شرعي، حملت من المعاني أكثر مما حمل العنوان من موسيقى.
أكد الشيخ قاسم أن حزب الله لا يتحرك من موقع السياسة وحدها، بل من عقيدةٍ تُستنبت من فكر الوليّ الفقيه الإمام الخامنئي، وأن العلاقة به ليست تبعية، بل التزامٌ إيماني بالعقل والحق والمقاومة.
واعتبر أن الدعم الإيراني للمقاومة ليس تهمةً بل فخر، إذ لولاه لما تحرر الجنوب، ولا بقيت فلسطين تنبض في ضمير الأمة، منتقدًا أولئك الذين باعوا القدس واشتروا رضا الاستكبار.
ثم جاءت كلمته الموجّهة إلى الإدارة الأمريكية، ولا سيما إلى توم براك، لتكسر الرتابة الدبلوماسية وتضع النقاط على حروف الأزمة:
“كفى تهديدًا للبنان... تارةً تريدون ضمّه إلى الشام، وتارةً تدفعون إسرائيل لضربه، وتارةً تفتعلون الفتنة بين جيشه وشعبه. تريدون لبنان تابعًا لإسرائيل ضمن مشروع إسرائيل الكبرى، لكن استقرار لبنان لا يُبنى على الخضوع بل على كفّ يد العدوان.”
كانت تلك العبارة المفتاح الذي قرأه المراقبون كموقفٍ حاسمٍ ورسالةٍ غير مباشرة إلى واشنطن —
وأنا هنا أشرح، وربما لم يقصد الشيخ قاسم ما أذكره، لكن هكذا تُقرأ الرسائل السياسية خاصة عندما تحدد الاسماء المعنية بالرسالة واتجاهها: "أن لغة الضغوط انتهت، وأن من أراد حوارًا فعليه أن يتحدث مع من يملك القرار في الحرب والسلم، لا مع الوسطاء ولا عبر الإعلام.
كلمة الشيخ نعيم قاسم كانت أشبه بإيقاعٍ سياسي منضبط على سلّمٍ من الرسائل الدقيقة:
أن المقاومة ليست في موقع الدفاع عن نفسها، بل في موقع المبادرة كما في الحرب كذلك في السلم والتفاهمات (امثال تفاهم وقف اطلاق النار الذي التزمت به، كما انتخاب رئيسي الجمهورية والحكومة والتزامها بالحفاظ على المشاركة"، وأنها لا تمانع من الحوار متى كان حوار الندّ للندّ، لا حوار التابع مع المتبوع.
في المقابل، قرأ آخرون الرسالة كدعوةٍ ضمنية لإعادة النظر في سياسة العزل الأمريكية تجاه قوى المقاومة "حزب الله".
فكما جرى مع حركة حماس حين فُتح معها حوار مباشر من خلال اشادة ترامب فيها، ثم الحوار والاتفاق برعاية عربية وغربية، فإن تجاهل حركات المقاومة الأخرى التي صنعت المعادلات في الميدان، يبدو خيارًا ناقصًا في أي تسويةٍ مقبلة.
ومنهم من رأى أن على واشنطن، إن كانت جادّة في بناء شرق أوسط جديد، أن تُعيد تعريف “الإرهاب”، وألا تخلط بين من حارب الإرهاب، وبين من اختلف مع سياساتها.
فليس من المنطق أن ترفع أمريكا الحظر والعقوبات وتوقف الملاحقات والمكافآت عن من صنّفتهم إرهابيين وحين احتاجت إليهم حولتهم الى قيادات ورؤساء، ثم ترفض الاعتراف بمن قاتل الإرهاب فعلًا على الأرض.
إن تجاهل هذه الحقائق، لن يُضعف المقاومة، بل سيُضعف خيار التسوية نفسها في المنطقة، لأن من يصرّ على استبعاد الفاعلين الواقعيين يخسر شرعية القيادة وواقعيته السياسية.
وأضيف — وهي رسالة إلى الإدارة الأمريكية — على سبيل المقاربة لا المقارنة:
أن محور المقاومة الذي استبعد ناجي أمهز من محوره وإعلامه ولقاء أحزابه على مساحةٍ ممتدة من طهران إلى لبنان، تبيّن في لحظةٍ مفصلية من عمر هذا المحور أن رؤيتي السياسية كانت أوضح وأدق من جحافل إعلامية ومغردين سياسيين ومؤسساتٍ أُنفقت عليها عشرات ملايين الدولارات دون مقاربة أو نتاج يُذكر.
وأكرر: أنا لا أقارن، بل أقدّم مثالًا.
فالمنهج الذي أُقصيتُ به عن محور المقاومة بسبب نمطية الفكرة السياسية الواحدة، هو ذاته ما قد تُقصي به أمريكا نفسها إذا تمسكت بفكرةٍ سياسيةٍ واحدة لا ترى الآخر.
ونحن اليوم أمام مرحلة تسويات، وهذا يتطلب من أمريكا كما من محور المقاومة الجلوس مباشرة إلى طاولة الحوار، وإلا فالجميع خاسرون، وستفقد المنطقة فرصةً حقيقية، كما قد يخسر دونالد ترامب دوره التاريخي الذي قد يرفعه إلى مصافّ الرؤساء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية.
كما أن لبنان لا يحتمل أن يدفع ثمن الولادة القيصرية للشرق الأوسط الجديد، ولا يجوز لدول العالم أن تكافئ لبنان — رسالة التعايش، حيث الإنجيل بجانب القرآن، والكنيسة بجوار المسجد — بالتغاضي عن معاناته.
فلبنان هو أرض الربّ المعتدل الرحيم الذي يحبّ كل أبنائه.
وفي الختام، في عالمٍ يُعاد رسم خرائطه، لا مكان لمن يرى نفسه سيّدًا على الآخرين، بل لمن يُحسن الإصغاء إلى من يملك إرادة الصمود والبقاء.
انت قوي انت تصغي. انت قوي انت تنفذ دون ثرثرة.
ويبقى السؤال المفتوح في نهاية المشهد:
هل أرادت واشنطن أن تسمع رسالة الشيخ قاسم، أم أنها ما زالت تصمّ أذنيها؟
وهل ستقرأ كلمته كموقفٍ اعتراضي، أم كعرضٍ عقلاني لحوارٍ واقعي بين الخصوم؟
في انتظار الجواب، تظلّ غزة تعيش مشهد الدمار ورائحة النار، ولبنان يقف على إيقاعٍ آخر — هو إيقاع الانتظار.
وتبقى المنطقة كلها كوتر عودٍ مشدود بين نغمتين تقلقان العالم:
نغمة المقاومة التي لا تنكسر… ونغمة السياسة الأمريكية التي لا تنكسر أيضًا،
وبينهما يبحث الشرق عن انسجامٍ وتوازنٍ مفقود.