كتب رياض الفرطوسي
في بداية القرن التاسع عشر، حين كانت أوروبا تخرج من عصورها المظلمة إلى زمن الأنوار والعقل، كان العالم العربي يفتح عينيه على مفارقة كبرى: يقظة الآخر وسكون الذات. لم يكن الاكتشاف سهلاً، ولا اللقاء متكافئاً. كانت البواخر والمدافع والمدارس والمؤسسات كلها تحمل ملامح قوة جديدة، تتسلل إلى وعي العرب عبر البعثات والترجمات والرحلات. ومن هناك، بدأت حكاية طويلة بين الحلم والواقع، بين الرغبة في النهوض والاصطدام بجدار التحديث.
كانت كلمة “النهضة” في أصلها وصفاً أطلقه المؤرخون لاحقاً، حين حاولوا أن يفهموا تلك اللحظة التي شهدت حركة فكرية وحضارية غير مسبوقة في العالم العربي. لم يكن الذين عاشوا تلك البدايات يدركون أنهم يخطّون فصول ما سيسمّى لاحقاً بالنهضة، بل كانوا ببساطة يواجهون السؤال المربك: لماذا تقدّم الغرب وتأخرنا نحن؟
رفاعة الطهطاوي، الشاب الأزهري الذي سافر إلى باريس سنة 1826، كان أول من دوّن دهشته الفكرية في كتابه الشهير تخليص الإبريز في تلخيص باريس. لم يكن كتابه مجرّد يوميات رحالة، بل شهادة على لقاء حضارتين. رأى الطهطاوي في المدينة الأوروبية قانوناً يحكم، ونظاماً يربّي، وعلماً ينير، وأخلاقاً تتشكل وفق مبدأ المصلحة العامة. لكن ما أدهشه أكثر أن هذا “التمدن الأوروبي” لم يتناقض – في نظره – مع روح الإسلام. فالأخذ بأسباب العلم والنظام ليس خروجاً عن الدين، بل امتثال لأمره في طلب المعرفة وإعمار الأرض.
بعده بثلاثة عقود، سيكتب خير الدين التونسي أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك، وكأنه يواصل الحوار ذاته مع العصر. سيقول إن “التمدن الأوروبي نهر جارف”، ومن يقف في وجهه سيجرفه التيار. ولكنه يضيف بحذر العالم الفقيه: “ما صلح في أمر الدنيا يصلح للمسلمين، ما لم يخالف أصلًا من أصول الدين”. كانت تلك العبارة المفتاح الذي سمح لجيل كامل أن يرى في التقدم الغربي فرصة لا تهديداً. هكذا بدت النهضة في بداياتها: ثقة بالنفس وإيمان بقدرة الأمة على أن تتعلم دون أن تفقد هويتها.
غير أن الزمن لم يمهل هذا الحلم طويلًا. فمع نهاية القرن التاسع عشر، لم تعد أوروبا تلك الجارة التي نستلهمها من بعيد، بل أصبحت القوة التي تحتل وتدير وتقرّر. الاحتلال البريطاني لمصر والفرنسي لتونس غيّرا قواعد اللعبة. هنا ولدت مرحلة جديدة، اسمها الإصلاح. لم يعد السؤال: كيف نلحق بالغرب؟ بل كيف ننهض من داخِلنا ونحن تحت سلطانه؟
ظهر جمال الدين الأفغاني صوتاً عالياً في زمن الهزيمة، داعياً إلى نهضة إسلامية تواجه الاستعمار وتستعيد وحدة الأمة. رأى في التمدن الأوروبي حقيقة لا يمكن إنكارها، لكنه رفض أن يتحول الإعجاب إلى تبعية. أراد أن يوقظ الوعي الجمعي، وأن يحشد المسلمين في مواجهة ما سماه “الصليبية الجديدة”، أي الهيمنة الغربية بأدوات حديثة.
أما تلميذه محمد عبده، فقد اختار طريقاً أكثر هدوءاً وعقلانية. عاد إلى النصوص، ونقّاها من الجمود، ودعا إلى إصلاح الفكر الديني قبل إصلاح السياسة. رأى أن الحرية الفردية أساس الإيمان، وأن العقل هبة إلهية لا يجوز تعطيلها. كانت أفكاره مزيجاً من الليبرالية الأوروبية وروح الإسلام الإصلاحي. تأثر به جيل كامل من المثقفين الذين رأوا أن التحديث لا يتحقق إلا بالتربية والتعليم والانفتاح على العالم. لم يكن مشروع عبده سياسيًا بقدر ما كان ثقافياً وأخلاقياً، لكنه حمل بذور التغيير العميق في المجتمع المصري والعربي.
كانت تلك هي المفارقة الكبرى: كلما حاول العرب اللحاق بالعصر، تبدّل العصر نفسه. وكل محاولة كانت تُفتح على أملٍ وتنتهي على جدارٍ من الواقع. فبينما انشغل المفكرون بمناقشة الفقه والسياسة والتربية، كانت المجتمعات تدخل – دون وعي كامل – في دورة اقتصادية عالمية جديدة. لم يكن التحديث خياراً، بل موجة شاملة اجتاحت كل شيء: من المصانع والبنوك إلى المدارس والموانئ والبيوت. كما قال أنور عبد الملك لاحقاً، لقد التحقت المنطقة بالنظام الرأسمالي العالمي، شاءت أم أبت، وصارت جزءاً من شبكة اقتصادية لا تملك مفاتيحها.
في المدن العربية، بدأ “الحيز الحديث” يتكوّن شيئاً فشيئاً: أحياء جديدة بشوارع واسعة، وعمارة على الطراز الأوروبي، ومقاهٍ ومسرح وأسواق وبنوك. لغة جديدة تتسلل إلى التخاطب اليومي، لباس مختلف، وطبقة اجتماعية جديدة ترى في القديم عائقاً أمام التقدم. وفي المقابل، بقيت الأحياء القديمة تئنّ تحت ثقل الفقر والتقاليد.
هنا، بدأ التناقض الحقيقي بين ما هو تقليدي وما هو حديث. لم يكن صراع أفكار فحسب، بل صراع وجود: من يسكن المدينة القديمة ومن يملك المدينة الجديدة. أصبحت الحداثة في المظهر، لا في الجوهر؛ في الشارع، لا في العقل.
مع زمن إسماعيل في مصر، ظهر نموذج التحديث المتسرّع. كان الحلم أن تُبنى “باريس على ضفاف النيل”. فهُدمت أحياء كاملة، وشُقت شوارع جديدة، وأُعيد رسم القاهرة لتبدو مدينة أوروبية في الشرق. لم يدرك أحد حينها أن الحداثة التي لا تنبت من المجتمع، تتحول إلى قشرة براقة تخفي تحتها تشوّهات عميقة.
وفي بيروت بعد عام 1908، حين تولى الوالي عزمي بك الحكم، تكرر المشهد ذاته: هُدمت الأسواق القديمة بحجة التطوير، فاختفت المدينة التي كانت تحمل ذاكرة قرون. كانت الفكرة واحدة في كل مكان: أن نتخلّص من القديم لنصنع الجديد، دون أن نفهم أن الحداثة ليست نقيض التراث، بل امتداداً له في صورة مختلفة.
مع مرور العقود، تبيّن أن التحديث لم يجلب العدالة، وأن العمران الحديث لم يصنع مجتمعاً حديثاً. فالريف بقي فقيراً، والفلاح بقي مقهوراً، والمدينة تضخّمت حتى صارت تبتلع نفسها. ومع كل موجة تحديث، كانت الهجرات الريفية تتزايد، والعشوائيات تنمو، والفجوة بين الغني والفقير تتسع.
إنه الوجه الآخر للحلم: كلما اقتربنا من التمدّن، ازداد الواقع اضطراباً. وكلما تحدثنا عن التقدم، ازدادت الأسئلة عن العدالة والهوية والحرية.
في منتصف القرن العشرين، بعد قرنٍ كامل من المحاولات، وجد العرب أنفسهم أمام حصيلة مُحبِطة. مشاريع كثيرة وُلدت بأسماء مختلفة: دولة مدنية، مشروع قومي، اشتراكية، ليبرالية، إسلامية. لكن كل مرحلة كانت تنتهي بخيبة ما، وكأن التاريخ يعيد الدرس نفسه بأشكال متعددة. لم نصل إلى ما أردنا، ولم نعد كما كنا.
هنا وُلد الشعور العميق بالخيبة الذي يسكن المثقف العربي المعاصر: إحساس بأننا نسير دائماً على عتبة النهضة دون أن ندخلها فعلاً، وأن الحداثة التي حلمنا بها تحولت إلى سلسلة من التحديثات الإدارية والعمرانية دون روح فكرية تؤسس للإنسان الحديث.
ربما كان الخطأ الأول في الخلط بين المفاهيم. فالنهضة كانت حلماً ثقافياً، والإصلاح مشروعاً دينياً، والتحديث حركة اجتماعية واقتصادية، أما الحداثة فهي رؤية للعالم تقوم على الحرية والعقل والنقد الذاتي.
لكننا تعاملنا معها كأنها شيء واحد، ففقدنا القدرة على التمييز بين ما يجب تغييره وما يجب الحفاظ عليه. استوردنا المظاهر دون الفلسفة، فكانت النتيجة أن اكتمل البناء وانهار المعنى.
ومع ذلك، لا يمكن القول إن التجربة كانت فاشلة تماماً. فكل مرحلة تركت أثراً في الوعي العربي: من الطهطاوي الذي فتح باب العقل، إلى محمد عبده الذي حرّر الفكر الديني، إلى طه حسين الذي نادى بحرية المعرفة، وصولاً إلى المفكرين المعاصرين الذين يواصلون البحث عن طريق وسط بين الأصالة والحداثة.
إنها سلسلة من المحاولات، ربما لم تبلغ غايتها بعد، لكنها حافظت على جذوة السؤال مشتعلة: من نحن؟ وإلى أين نمضي؟
اليوم، بعد قرنين من الزمن، لا يزال السؤال نفسه يُطرح بصيغ جديدة. فالعالم من حولنا يتغيّر بسرعة مذهلة، والتقنية تسبق الفكرة، والمجتمعات تعيد تعريف نفسها كل يوم. أما نحن، فنقف بين ذاكرة النهضة وواقع التحديث، نحاول أن نجد لأنفسنا مكاناً في هذا العالم المتحوّل.
ربما لم ننجز الحداثة كما حلم بها روّادنا، لكننا لم نفقد الأمل بعد. فما دامت المجتمعات قادرة على أن تراجع نفسها وتعيد النظر في مسارها، فإن التاريخ يظل مفتوحًا على احتمالات جديدة.
النهضة ليست مرحلة مضت، بل إمكان دائم. والتحديث ليس غاية في ذاته، بل وسيلة لتجديد الحياة. أما الحداثة الحقيقية، فهي أن نصنع توازناً بين ما نأخذه من العالم وما نحافظ عليه من ذواتنا، أن نرى في تراثنا طاقة مستقبل لا عبئ ماضٍ، وفي الغرب تجربة إنسانية لا نموذجاً مقدساً.
عندها فقط، قد يصبح حلم النهضة واقعاً، وواقع التحديث نهضةً جديدة لا تشبه إلا أنفسنا.