كتب رياض الفرطوسي
في عالمٍ يستيقظ كل صباح على ملامح جديدة، لم يعد الغنى يقاس بما نملكه من نفطٍ أو معادن، بل بما نحمله من أفكار تضيء العقول وتشعل القلوب. فزمن الثروات المادية يوشك أن يودّعنا، ليبدأ عصر الثروات الفكرية، حيث يصبح الابتكار لغة البقاء، ووقود التنمية الذي لا ينفد مهما استُهلك.
وجاءت جائزة نوبل للاقتصاد لعام 2025 لتؤكد هذه الحقيقة بأبهى صورها، حين منحت الأكاديمية السويدية تكريمها إلى الأمريكيين جويل موكير وبيتر هيويت، والبريطاني فيليب أجيون، تقديراً لإسهاماتهم في فهم العلاقة بين الإبداع والنمو، بين الفكرة والازدهار. وكأن الأكاديمية أرادت أن تذكّر العالم بأن الثروة الحقيقية لا تُستخرج من باطن الأرض، بل من عمق الخيال الإنساني حين يُترك حرّاً يغامر ويبتكر.
يرى هؤلاء العلماء أن الاقتصادات التي تتنفس الابتكار هي وحدها القادرة على النمو دون أن تنفد مواردها، لأن سرّ الازدهار لا يكمن في مضاعفة الإنتاج، بل في قدرة الإنسان على التجدد الدائم. فموكير، الذي درس التاريخ الاقتصادي بعمق، كشف أن كل ثورة صناعية بدأت من فكرة جريئة سبقت الماكينات بخطوة. أما أجيون وهيويت فقد وضعا نموذجاً رياضياً لما يسمّى «التدمير الخلّاق»، وهو المفهوم الذي يولد فيه الجديد من رحم القديم، حيث تنهار الاحتكارات أمام زحف الأفكار الحرة، لتصبح الأسواق ميادين يتبارى فيها الخيال قبل رأس المال.
إن جوهر هذه الرؤية أن النمو لا يُقاس بالأرقام فقط، بل بالعقول التي تقف خلفها. فكل ابتكار حقيقي، كما أشارت لجنة نوبل، لا بد أن يتحول إلى قيمة مضافة للإنسان والمجتمع. والتاريخ الاقتصادي يشهد أن التقدم التكنولوجي خلال القرنين الماضيين لم يرفع الإنتاجية وحسب، بل وسّع آفاق العمل وقلّص الفقر وفتح أبواب الأمل أمام الأجيال. واليوم، يمتد هذا الإرث عبر الذكاء الاصطناعي والطاقة النظيفة، حيث تصبح المعرفة المورد الأول للاقتصاد العالمي.
إن رسالة نوبل هذا العام أعمق من تكريم ثلاثة علماء؛ إنها تذكير بأن الاقتصاد يبدأ من الإنسان وينتهي إليه. فحين تستثمر الأمم في العقول المبدعة، فإنها تبني مستقبلًا أكثر إنصافًا وجمالًا، مستقبلًا تُوزن فيه الأفكار بميزان الذهب، وتُقاس فيه الثروة بما نمنحه من إبداع لا بما نمتلكه من أصول.
النمو المستدام ليس مجرد نسبٍ في تقارير أو أرقامٍ على شاشات البورصة، بل هو حكاية الإنسان وهو يسعى لأن يجعل الحياة أكثر كرامة وعدلًا. وكل ابتكار يولد من رحم الشغف هو خطوة نحو هذا الحلم الكبير.
لقد حمل تتويج موكير وأجيون وهيويت رسالة إلى العالم: أن طريق المستقبل يبدأ من فكرة صغيرة في ذهن إنسان يؤمن بأن الخيال ليس ترفاً، بل ضرورة. فالأمم التي تجرؤ على التفكير هي التي تملك الغد، والأفكار التي نزرعها اليوم هي المناجم التي ستفيض بالثروة غداً.
في النهاية، لم تعد التنمية مجرد معادلات اقتصادية، بل صارت قصيدة يكتبها الإنسان حين يرفض أن يكرر الأمس، ويصرّ على أن يصنع غداً يليق بكرامته وذكائه. هكذا يُولد الاقتصاد من رحم الإبداع، وتتحول المعرفة إلى أجمل أشكال الثروة، تلك التي لا تُستهلك ولا تنضب، لأنها ببساطة تسكن فينا.