كتاب واراء

العراق وأمن الطاقة

 

كتب رياض الفرطوسي 

منذ أن اكتُشف النفط في أرض الرافدين، أصبح العراق جزءاً لا يتجزأ من معادلة الطاقة العالمية، مركزاً للتقاطع بين الجغرافيا والتاريخ، وبين السياسة والاقتصاد. لم يكن النفط للعراق مجرد ثروة طبيعية، بل قدراً استراتيجياً صاغ موقعه ودوره، وفرض عليه أثقال الجغرافيا ومطامع القوى الكبرى. في لحظةٍ كان فيها العالم يتعلم كيف يسيّر أساطيله بالنفط بدل الفحم، كان العراق يتهيأ ليصبح أحد أعمدة هذه الثورة الصناعية والسياسية الجديدة التي غيّرت وجه القرن العشرين.

 

منذ قرار تشرشل في مطلع القرن الماضي بالتحول من الفحم إلى النفط لتشغيل الأسطول البريطاني، بدأ العالم يفهم أن الطاقة ليست مجرد وقود، بل هي أداة للسيطرة والنفوذ. ذلك القرار البعيد في لندن كانت أصداؤه تتردد في البصرة وكركوك والموصل، حيث راحت الشركات البريطانية تمد أنابيبها وتزرع نفوذها تحت غطاء الاستكشاف. ومنذ تلك اللحظة، صار أمن الطاقة جزءًا من الأمن القومي للدول العظمى، وصار العراق، دون أن يختار، ساحة مركزية لهذا الأمن العالمي الجديد.

 

الحربان العالميتان كشفتا بوضوح أن النفط يمكن أن يشعل العالم كما يمكن أن يطفئه. اليابان هاجمت الولايات المتحدة بعد أن حُرمت من إمدادات النفط، وأوروبا أعادت بناء نفسها بعد الحرب عبر اتفاقات للفحم والصلب لتجنب الصراعات من جديد. لكن في الشرق الأوسط، كانت القصة مختلفة؛ هنا لم يكن النفط طريقاً إلى السلام، بل إلى صراعات متجددة. كل شبرٍ من أرضٍ غنية بالنفط صار هدفًا ومطمعًا ومركز قرار. والعراق، الذي كان قلب هذه الجغرافيا، وجد نفسه دائماً بين مطرقة الحاجة وسندان الطموح الخارجي.

 

في سبعينيات القرن الماضي، عندما استخدم العرب سلاح النفط خلال حرب أكتوبر 1973، كان العراق في طليعة الدول التي رأت في النفط وسيلة لاستعادة التوازن السياسي مع الغرب. غير أن هذا السلاح نفسه سرعان ما تحول إلى لعنة، إذ استيقظت القوى الكبرى على حقيقة أن أمنها الاقتصادي مرهون بقرارات تصدر من الشرق الأوسط. من هنا بدأت محاولات إعادة تشكيل المنطقة بما يضمن تدفق النفط بأسعار "معقولة" وبمسارات "آمنة"، وهي العبارات التي استخدمها السياسيون لتغطية جوهر الهيمنة الاستراتيجية.

 

العراق، بخزاناته الهائلة وموقعه الجغرافي الفريد بين الخليج وبلاد الشام وإيران وتركيا، كان في قلب هذه الحسابات. النفط العراقي لم يكن مجرد مورد، بل ورقة استراتيجية تعني السيطرة على واحد من أكبر الاحتياطات في العالم. لذلك لم يكن غريباً أن يشكل النفط خلفية دائمة لكل تحرك سياسي وعسكري تجاهه، من الحرب العراقية الإيرانية، إلى غزو الكويت، ثم إلى الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، الذي لم يكن في جوهره سوى فصل جديد من صراع طويل على الطاقة ومصادرها.

 

في خضم هذا التاريخ المزدحم بالصراعات، تبرز مفارقة مؤلمة: أن العراق، الذي أغنى العالم بالطاقة، عاش عقوداً من الانقطاع عنها داخلياً. مدنه المليئة بالنفط عاشت أحياناً في ظلام، ومؤسساته التي خططت للتصدير نسيت التنمية المحلية. السبب لم يكن اقتصادياً فحسب، بل سياسياً واستراتيجياً؛ لأن من يملك النفط في الشرق الأوسط لا يملك قراره بسهولة. النفط، في التجربة العراقية، لم يكن نعمة مطلقة بل عبئاً ثقيلًا، جرّ وراءه التدخلات والضغوط والانقسامات.

 

لكن رغم ذلك، يبقى النفط العراقي عنصراً جوهرياً في أمن الطاقة العالمي. فكل اضطراب في إنتاجه أو تصديره ينعكس على الأسعار في الأسواق العالمية، وكل استقرار في بنيته السياسية يعيد التوازن إلى السوق الدولية. العراق اليوم ليس مجرد منتجٍ للنفط، بل جزء من منظومة تحدد اتجاه الاقتصاد العالمي. ولذلك فإن مستقبل أمن الطاقة الدولي لا يمكن فصله عن مستقبل العراق السياسي والاقتصادي. فكما أن النفط العراقي غذّى محركات العالم لعقود، فإن استقراره اليوم يمكن أن يغذي توازن القوى في عالمٍ يتغير بسرعة.

 

في المقابل، ثمة تجارب تُظهر وجهاً آخر للنفط؛ وجه التنمية والعدالة والحوكمة الرشيدة. التجربة النرويجية مثلًا، التي أسهم في صياغتها المهندس العراقي الدكتور فاروق القاسم، قدّمت نموذجاً عالمياً في إدارة الثروة النفطية. فقد حولت النرويج مواردها إلى صندوق سيادي يضمن أجيال المستقبل، ونسجت علاقة نزيهة بين الدولة والمجتمع والاقتصاد. تلك التجربة ليست بعيدة عن العراق، لأن أحد مهندسيها الأوائل كان عراقياً حمل في قلبه حنيناً إلى وطنٍ لو أُتيح له أن يُدار بالعقل ذاته، لتبدّل وجهه وتبدّل وجه المنطقة معه.

 

ومع دخول العالم مرحلة التحول الطاقي الجديدة، حيث تتراجع مكانة النفط تدريجياً أمام الطاقة المتجددة والغاز والمعادن النادرة، يعود السؤال القديم في ثوبٍ جديد: أين موقع العراق من خريطة الطاقة القادمة؟ هل سيظل مجرد خزانٍ ضخم في معادلة الآخرين، أم سيصوغ لنفسه رؤية استراتيجية تضمن له مكاناً في عالم ما بعد النفط؟ في هذا السياق، يصبح أمن الطاقة للعراق مفهوماً متعدد الأبعاد: سياسي، لأنه يرتبط باستقلال القرار الوطني؛ اقتصادي، لأنه يمس قدرة الدولة على تمويل التنمية؛ واستراتيجي، لأنه يحدد مدى انخراط العراق في التوازنات الإقليمية والدولية.

 

إن الحديث عن أمن الطاقة في العراق هو في جوهره حديث عن أمن الدولة ذاتها. فكل سياسة داخلية أو خارجية، وكل تحالف أو خصومة، يدور في النهاية حول هذا المورد الحيوي الذي يختزن في جوفه تاريخ البلاد ومستقبلها. وإذا كانت الدول العظمى قد بنت قوتها على تنويع مصادر الطاقة كما فعلت بريطانيا والولايات المتحدة، فإن على العراق أن يبني قوته على تنويع مصادر اقتصاده، ليجعل من النفط وسيلة للنهضة لا سبباً للتبعية. 

 

 ربما آن الأوان لأن يتحول النفط في العراق من مصدر صراع إلى أساس استقرار، ومن رمزٍ للهيمنة الخارجية إلى أداة للسيادة الوطنية. حينها فقط يمكن القول إن العراق لم يعد مجرد لاعبٍ في خريطة الطاقة العالمية، بل أصبح أحد صُنّاعها. فالأمن الطاقي لا يتحقق بالبراميل التي تُصدّر، بل بالرؤية التي تُدار بها الثروة، وبالإرادة التي تجعل من الطاقة طريقاً للسلام، لا وقوداً للحروب.


تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

المقالات الأكثر زيارة