كتب رياض الفرطوسي
يُقال إنَّ الخوف وليدُ المقارنة، وإنّ الشعوب لا تخاف إلا ممّن يشبهها أو يتفوّق عليها. وفي ميزان الحضارات، لا يخشى الغربُ من أمةٍ إلا إذا كانت تملك ما يفتقده: جذوراً تمتد في عمق التاريخ، وإرثاً ثقافياً يتجاوز حدود المادة إلى روح الإنسان.
هنا يتقدّم الوطن العربي، لا ككتلةٍ جغرافية، بل ككيانٍ حضاريٍّ حيّ، يحمل في جوهره مزيجاً من الإيمان والعقل والجمال، ويُشكّل، من حيث لا يدري البعض، الخطر الحقيقي على الغرب.
الخطورة ليست في السلاح، ولا في الاقتصاد، ولا في الأسواق المفتوحة كما يظنّ كثيرون. فاليابان، وكوريا، وماليزيا، كلها دول نشطة ومتحضّرة، ولكنها ليست خطراً على الغرب، لأنها تسير في فلكه الثقافي والفكري. هذه الشعوب – رغم تقدّمها المادي – تظل امتداداً للنموذج الغربي، سوقاً تُستهلك فيه منتجاته وأفكاره، وليست نِدّاً له.
أما الأمة العربية، فهي تملك ما يهدّد بنية الغرب في العمق: اللغة، والدين، والتاريخ، والهوية.
العربية ليست مجرّد وسيلة تواصل، بل وعاء فكرٍ ووجدان، لغة قادرة على التعبير عن الميتافيزيقي والعقلي والوجداني في آنٍ واحد. والإسلام ليس ديانة محصورة في الطقوس، بل منظومة حضارية متكاملة تُنظّم علاقة الإنسان بذاته وبالكون. وتاريخ هذه الأمة ليس صفحةً طُويت، بل جذوة يمكن أن تُبعث في أيّ لحظة استقرارٍ ونهوض.
الغرب يدرك أن استقرار هذه المنطقة دون حروبٍ وتشويهٍ وتبعيةٍ سيُنتج نهضة طبيعية، ونهضة العرب إن حدثت، فلن تكون تكراراً للغرب بل بديلاً حضارياً عنه.
ولهذا، تُزرع الفوضى، وتُشوه المفاهيم، ويُغذّى الانقسام، حتى لا يستعيد هذا الكيان التاريخي وعيه بنفسه.
إنّ الفرق بين "المدنية" و"الحضارة" هو ما يغيب عن أذهان كثيرين. المدنية – كما يصفها المفكرون – هي أدوات الحياة: المصانع، الحواسيب، السيارات، الكهرباء… بينما الحضارة هي الإنسان نفسه حين يرتقي في فكره وسلوكه وأخلاقه.
المدنية تُنتج أدوات، أما الحضارة فتُنتج قيماً.
والغرب – مهما بلغ من رقيٍّ مادي – لم يبلغ بعدُ نضج الحضارة الحقيقية، لأنّه يضع الأدوات فوق الإنسان، والآلة فوق الروح.
لقد كان العرب والمسلمون يوماً أصحاب اليد العليا في أدوات الحضارة: فهم من طوّروا أدوات الطبخ والري والزراعة والطب، وهم من أبدعوا في الفلسفة والفكر والاجتماع.
ابن خلدون أسّس علم الاجتماع قبل أن يُنحت له اسم، وابن رشد أنار العقل الأوروبي في عصور الظلمة، وابن سينا جمع بين الطب والفلسفة والعقلانية.
وما صنعه الغرب لاحقاً لم يكن اختراعاً من العدم، بل تطويراً على ما أبدعه الشرق من قبل.
حين ننظر بعمق، ندرك أنَّ الحضارة ليست رفاهية كهرباء أو سرعة إنترنت، بل قدرة الإنسان على بناء معنى لحياته. يمكن للإنسان أن يعيش بلا حاسوب، لكن لا يمكنه أن يعيش بلا سكين، بلا نار، بلا أدوات الحياة الأساسية التي هي أصل البقاء — وهذه الأدوات الأولى كانت من صنع الشرق، لا الغرب.
الحضارة، في جوهرها، هي الإنسان حين يُحسن استخدام يديه وفكره معاً.
ومن هنا، نفهم سرّ خوف الغرب: فالعرب حين يستعيدون ثقتهم بذواتهم، وحين يفهمون أن الحضارة ليست ما يُصدّره الغرب من بريقٍ زائل، بل ما يملكونه من عمقٍ إنساني وإيماني، سيتحوّلون من أمةٍ مستهلكة إلى أمةٍ مؤثرة.
عندها فقط، يعود الميزان إلى موضعه الصحيح: الغرب مدنيٌّ في مظهره، والعرب حضاريّون في جوهرهم.