كتاب واراء

جائزة نوبل، وجريمة جهاز البيجر ... حين يتطفل الإرهابيون على مجد العلماء ... بوصلة المواقف

كتب جليل هاشم البكاء 

 

منذ أكثر من قرن، كانت جائزة نوبل تعد رمزًا للإنجاز الإنساني الأسمى؛ تتوج العلماء والمفكرين الذين يسهرون على خدمة البشرية، سواء في مجالات الطب، الفيزياء، الكيمياء، الاقتصاد، أو الأدب. فهذه الجوائز تُمنح لمن يضيف لبنة في بناء الحضارة، ويقدم للعالم معرفة أو فكرة تفتح بابًا للأمل. 

 

ولكنّ المفارقة المؤلمة تكمن في أن جائزة نوبل للسلام، التي كان يُفترض أن تكون تاج هذه الرسالة، أصبحت اليوم عنوانًا للتناقض ومحلّ شكّ في مصداقيتها.

 

بينما يحتفي العالم هذا العام بالعلماء الذين كشفوا أسرار الجهاز المناعي وأنقذوا البشرية من أمراض فتاكة، يظهر في المقابل مشهد غريب ومستهجن: مجرم الحرب بنيامين نتنياهو يرشّح الرئيس الأمريكي لنيل جائزة نوبل للسلام، في الوقت الذي لم تجف فيه دماء آلاف الأبرياء من الشعب اللبناني والفلسطيني، الذين سقطوا ضحايا أسلحة وتقنيات قاتلة وجرائم ممنهجة تحت ذريعة الأمن والدفاع.

 

ومن أكثر الرموز فظاعة في هذا المشهد ما كشفته التقارير عن جهاز البيجر الذي سلّمه نتنياهو للرئيس الأمريكي في أول أيامه بالمنصب كتذكار رمزي، بينما هو في الحقيقة أداة تسببت بقتل وإصابة الآلاف من المدنيين ... أطفالًا ونساءً وشيوخًا ... نتيجة التفجيرات التي نفذها الاحتلال الإسرائيلي في لبنان. جهاز صغير بحجم اليد، لكنه حمل في طياته كل ما تمثله الهمجية التقنية من انحرافٍ عن جوهر العلم الإنساني.

 

وهنا يظهر الفارق الجوهري بين جوائز نوبل العلمية وجائزة نوبل للسلام؛ فبينما الأولى تُمنح لمن يبدع في المختبر ويُسهم في شفاء المرضى وحماية الأرواح، تُمنح الثانية اليوم أحيانًا لمن يبرع في تبرير الحروب وتسويقها بعبارات دبلوماسية.

 

 لقد تحولت الجائزة التي كان يُفترض أن تُكرّم دعاة العدالة إلى منبرٍ سياسي يبيضّ صفحات الزعماء الملطخة بالدماء، ووسيلةٍ لتلميع وجوهٍ فقدت إنسانيتها.

 

إنّ منح جائزة السلام لمن يُشعل الحروب أو ترشيحهم له، لا يُهين فقط الضحايا الذين فقدوا أرواحهم تحت الركام، بل يُهين أيضًا اسم ألفريد نوبل نفسه، الذي ندم على اختراعه الديناميت وسعى في نهاية حياته لتكفير عن أثره المدمر عبر تأسيس هذه الجوائز.

 

أما اليوم، فالمشهد مقلوب:

 

العلماء الحقيقيون ما زالوا في المختبرات يحاربون الأمراض ويخاطرون لأجل إنقاذ الحياة.

 

والساسة الملوثون يسعون خلف جائزة السلام لتبييض جرائمهم وتغطية آثار ما ارتكبوه بحق الإنسانية.

 

إنّ جهاز البيجر الذي فجر أجساد الأبرياء يجب أن يبقى شاهدًا على المفارقة العظيمة: هناك من يصنع التكنولوجيا لينقذ، وهناك من يستخدمها ليفني. 

 

وبين هذين العالمين، تُقاس المسافة بين جائزة نوبل للعلماء وجائزة نوبل للسلام التي فقدت بوصلتها، حين صار الإرهابيون أنفسهم يطمحون لنيلها باسم السلام.

 

إن إعادة المصداقية إلى هذه الجائزة لا تكون بالتصفيق للمجرمين، بل بإعادتها إلى أصحابها الحقيقيين: ضحايا الحروب، والمصلحين، والباحثين عن العدالة بدمائهم لا بخطبهم.

 

 

 

جليل هاشم البكاء


تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

المقالات الأكثر زيارة