كتب محمد فياض من مصر
في كل مرة يأتي موسم الإنتخابات في مصر يكشف المجتمع عن مناطق مظلمة في سراديب الدماغ المصري. وترسل هذه السراديب إشاراتٍ تقف إنتباه في تزاحم كثيف أمام عتبات مراكز صناعة القرار تحاول فرض عناوينها في كل مرة على قائمة أولويات الحكم..وتوصِد تكوينات النظام كل الأبواب بإحكامٍ شديدٍ دون نفاذها . تختمر هذه الإشارات وتتفاعل ومحملةٌ بأتربة الصد والصمت الغبي تعاود مطارحها في الدماغ الجمعي للمصريين.وحيث تكون الإنتخابات دون مثيلاتها في معظم بلدان العالم ملهاةً مدفوعة الأجر. لاتوجد ثمة فرصة لدى مراكز الدراسات و الأبحاث للرصد وبالتالي لا فسحة للتعامل العلمي والموضوعي وفق قواعد علم الإجتماع السياسي المتعارف عليها..
وبين إشارات الدماغ والجهة المستهدف الإرسال إليها يقف المزَيَّفون الجدد. أصحاب الحظوة والثروة الذين أخضعوا كل شيء في الوطن للتسعير وبينما جيوبهم متوحٌّشٌ فيها الثروة فقد ابتاعوا واشتروا..في حضرة الدولة..الحكم والأجهزة والموكول إليها وفق القسَم الحفاظ على القانون والدستور..المأسوف عليه الأخير يعطي حقوقاً للشاسيهات المعتلة التي تحمل فوقها كابينة الدماغ المُطْلِق إشاراته الكثيفة في مناسبات توزيع حواف الكعكة على بوابات الحكم..دون جدوى.!!
ليس من قبيل الدخان الذي انطلق من العدم دون اشتعال النار أن يتراشق أعضاء الجماعة المصرية في كل حركتهم وليس حراكهم..في البيت والشارع ووسائل المواصلات وشوادر الأفراح وسرادقات العزاء..وحفلات الطهور ومناسبات الولادة والسبوع..أن الكرسي في البرلمان بغرفتيه ارتفعت أسعاره بما سدد لكمة عنيفة للمأسوف عليه الدستور واحتفل الذين أقسموا على احترامه بإشعال البخور والصيام عن القسَم ثلاث ليالٍ..وهذا كثير..!!
إن قواعد الممارسة إعتراها فسادٌ خطير والأخطر هو صم الآذان والأعين عنه وعن تلك الإشارات التي تصل إلى نظام الحكم من الدماغ الجمعي للمصريين وترُدَّها الحكومة خائبة..ومن الخطورة بمعان أن تتوقف أو بالأحرى تتجنب مراكز الدراسات عن التناول والتحليل وكتابة التقارير إلى نظام الحكم لوضع المخاطر المحدقة بالشعب الغاطس سعياً إلى إضاءة اللمبة الحمراء وإسداء النصيحة الوطنية لأولي الأمر في إشارة حقيقية وجادة أن هذا الشعب المبدع لم يقدِّم لأي حكم أجندة تثويره ومحطات الغضب لديه وأزمنة ممارسة الإرادة لاقتضاء الحقوق.. برغم كون أجندة المعطيات متشابهة ومكررة في ذهنية كل الحكومات وأنظمة الحكم.. إلا أن أجندة النهوض لإنزال الأحمال الثقيلة حين تقارب كسر الظهر المصري لايقرؤها أحد من الجهابزة.
لا في دواليب الحكم ولا في مراسم سرادقات رص الفقراء بإهانة الحاجة أمام المرشح المشتري. من يعتقد أن الجماهير في حالة رضا فقد أخطأ..ومن يعتقد أن ثلة الملتفين حول دافع الملايين هم أحرار فقد اخطأ. لأن الحرية في الإختيار تفترض التمتع بالقدرة على ذلك..بمعنى أن يكون حاصلاً متمكناً من حقوقه المدنية والإقتصادية حتى ندعي أنه كان حراً وهو يمارس خمس دقائق كل خمسة سنوات لحالة من حالات الحقوق السياسية..ومن يدعي ولو كان هتافه بالصوت العالي المبحوح من شدة الحماسة أن هذا المرشح تقدم للترشح من أجل مصر..فقد كَفَر بالأبجديات الوطنية دون جدال.
نعم ذهبت مصر منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي إلى الإقتصاد الحر.. تمهيداً ومغازلةً للأمريكي على حساب الشعب ومصالحه وثوابته في كل شيء.ذهاباً إلى كامب ديفيد..وأنتجت الحالة تجار الفساد والأمراض والعملة والمخدرات والآثار..بل والعمالة تحت عنوان براق ".. منظمات المجتمع المدني.." ودخلت مصر في حالة انقسام عميقة ظهرت آثارها الآن..وماظهر منها لايتعدى كونه مقدمة للتوحش أو إنذار خطر لمن لازالت لديه قدرة الإستشعار.
ومايناير ببعيد..يناير الأولى ويناير الثانية.
فتخرج مارونات المال للسيطرة على السلطة التشريعية بمباركة من الحكم..وتجريف الأخير الحياه السياسية وتمهيد الطريق أمام غير المؤهلين من الهواه للوصول إلى سدات الحكم في أركانه الواسعة وفق القواعد الفقهية للقانون.
هذا خطر محدق ويجب التصدي له بالأدوات المتاحة غايةً في توسيع تلك الأدوات لتظل الخناقة بين الفقراء وهم 90% من الشعب وبين رجال المال تحت ناتج الأدوات وتطويرها في مظلة نظام الحكم لنقطع كل الطرق التي قد تؤدي حتما إلى إبداعٍ شعبيٍ مغاير يفشل الحكم وتفشل الأجهزة في التنبؤ به..لا لضعف الأجهزة بل لعبقرية الشعب المبدع..ويناير كان بالأمس قريباً.فلا تنبأتم ولا فعلتم شيئاً أمام الطوفان الشعبي سوى الهروب..وكل من كان مبطوحاً ظهر لديهم فجأة يقيناً بأن الشعب يعرف بالأسماء كل الذين تجبروا عليه فهرب الجميع وارتعدوا..ولست فرِحاً لذلك بل ساهمت بإخراج قيادات منهم من وسط الجماهير الغاضبة..وتحت حمايتنا نحن من عذبَنا هؤلاء..لكن اللحظة مختلفة والوعي ينقذ البلاد والعباد..فكيف لنا نقيم الأفراح في مكاتب الحكم لأن رجالات المال يستولون على البرلمان وعلى مستقبل البلاد..وهي رأسمالية متوحشة غبية لا جذور لها وتعدم توافر الحد الأدنى للثقافة الرأسمالية الحقيقية في كل بلاد العالم.فلم تقدم واجبها الإجتماعي..ولم تقدم اقتصاداً وطنياً منتجاً حتى الآن..وسكتت عنهم الدولة فلا ألزمتهم بالإشتباك مع مشروع وطني تخطط له وتعطيهم الفرص تحت إشراف الأخيرة..وتظل الإنتخابات هي الرافعة الحقيقية لفك شفرات الأزمة المجتمعية بتفاعلٍ شعبي. ويظل الصندوق هو البديل الآمن للفوضى.. الأمر الجلل الذي يفرض على نظام الحكم إصلاحات سياسية عميقة تستوعب تناقضات المجتمع وثقافاته.وتنتصر لحزمة من القواعد العادلة في مواجهة قواعد الأمر الواقع والمغالبة التي يفرضها رأس المال..
والإنتخابات والصندوق عملية واحدة يلازمها وماهيتها تكافؤ الفرص وعدالة الحياد..ونعي أننا قد واجهتنا تجربة صندوق أتى بجماعة حسن البنا إلى رأس الحكم بالصندوق..وإن كان الشعب كله يعلم أن الصندوق لم يأتِ بهم..بل أشياء أخرى دونه..!!
وهنا نفرق بين كوننا في المرحلة الإنتقالية ولها حساباتها التي نحترم..أم أنها الإنتقالية قد انتهت وتجاوزناها..
فعندما أكملت مصر بناء السلطات فقد أنهت المرحلة الإنتقالية التي تتبع الثورات..وإن كان يظل مطروحاً في نطاق الإباحة إسترجاعها لمسألة تهم الأمني القومي..
ومراراً طالبنا الرئيس..نعم أعني..الرئيس.ففي مصر دائماً نطالب ونؤيد ونعارض الرئيس..كان نظام الحكم برلمانياً أو رئاسياً أو مختلطاً..طالبناه ولن نتوقف عن مطالبته ونحمله المسؤولية عما آلت إليه الممارسة السياسية في السنوات الأخيرة..وطلبنا عقد مؤتمراً للإصلاح السياسي لجهة التعافي السياسي لتحصين المجتمع من الداخل..ونُذَكِّر الرئيس -علَّ الذكرى تنفع الوطنيين - إنتفضناً جميعاً حالَمَا استيقظت البلاد والمساجين يحكمون مصر ويؤسسون لدولة إرهابية يحكمها أتباع الظواهري.ولجهة مشروع برنارد لويس..
وهانحن نحذّر..فلم نسترد الوطن من أيدي الجماعة لنُسَلِّمها ..أو نعطي أحد أهم سلطاتها الثلاث - السلطة التشريعية - إلى الهواه.
ألم يسأل الحكم أجهزته ومؤسساته لماذا توارى السياسيون عن الترشح للمرة الثانية..؟! . ولماذا تبدل الخطاب لكل - ونعني ذلك - من تقدموا للترشح من كل حروف الهجاء السياسية والوطنية إلى خطاب خدمي يليق لمرشحي المحليات ولا يمس اشتراطات الترشح للبرلمان..؟!
ألم ينزعج الرئيس من تواتر إجراءات وممارسات مصادرة غرفتي البرلمان لصالح رجال المال..والذاكرة الوطنية تحمل مشهداً مُعبِّراً للسيد أحمد عز وهو ينتشي فرحةً بالإنتصار على مصر في برلمان 10 فتأتيهم 11 على وجه السرعة..ألم يرَ كتاب التقارير إلى متخذ القرار في بلادي أن الغباء السياسي لم يترك للمعتدين على المقاعد بأموالهم فرصةً ليفعلوها بإبداعٍ جديد مغاير لما ألِفَته الطبقات الإحتماعية المعتدى عليها والقاصي والداني يشهد أسواق شراء الذمم وأصوات الناخبين العُزَّل من حرية الإختيار وافتراضاته الغائبة.؟!
حين يكتب التاريخ أن تسعير المقاعد والمزايدة عليها وسُعار المغالبة والإستحواذ المُربِك لكل الطموحات والآمال في مصر أشعل الحرب النقدية على المقاعد... انتصاراً لمقاصد مبهمة ليس من بينها المصالح العليا للبلاد.
وما البلاد إلا شعب.وإقليم ..وأنتم.
ألم يزعجكم مايحدث..؟!! إنه للحق يزعجنا.