كتاب واراء

القراءة السطحية للوقائع توقع الإنسان بالوهم ... بوصلة المواقف ...

 

 

يخطئ كثير من الناس حين يربطون بين قوة العملة وقوة الاقتصاد، فيظنون أن ارتفاع سعر صرف العملة أمام الدولار هو المعيار الحقيقي لازدهار الدولة، وأن انخفاضها دليل على ضعفها وانهيارها. هذه النظرة السطحية للوقائع الاقتصادية تُنتج فهماً مشوَّهاً للواقع، وتوقع الإنسان في وهم الأرقام المجردة، بعيداً عن جوهر القوة الإنتاجية الحقيقية.

 

في الحقيقة، هبوط العملة في البلدان المنتجة قد يكون منفعة لا ضررًا، شريطة أن تمتلك تلك البلدان منافذ لتصدير ما تنتجه من سلع وخدمات. فعندما تضعف العملة، تصبح السلع الوطنية أرخص في الأسواق الخارجية، مما يزيد من تنافسيتها ويُحفّز الطلب عليها. وهذا بدوره يدعم قطاع الإنتاج، ويوفر فرص عمل، ويزيد من تدفق النقد الأجنبي إلى الداخل.

 

إن قوة الاقتصاد لا تُقاس بارتفاع قيمة العملة، بل بقدرته على الإنتاج والتصدير والاكتفاء الذاتي. فالعملة القوية التي لا تستند إلى قاعدة إنتاجية صلبة، أشبه ببناء مرتفع على أرض رخوة، بينما العملة الضعيفة في بلد منتج تشبه البذرة الصغيرة في تربة خصبة، تنبت وتثمر وتتكاثر بمرور الوقت.

 

تُعدّ إيران مثالاً واضحاً على هذه الحقيقة. فعلى الرغم من العقوبات والحصار الاقتصادي المفروض عليها منذ أكثر من ستة وأربعين عاماً، فإن تبادلها التجاري الداخلي والخارجي ما يزال نشطاً، إذ تعادل حركة التجارة اليومية في مدنها الكبرى ما تقوم به عدة دول مجتمعة. ذلك لأنها دولة منتِجة تبحث عن أسواق لتصدير منتجاتها، لا سوقًا تبحث عمّن يملؤها بالبضائع المستوردة.

 

وفي المقابل، شهدت دول الترويكا الأوروبية، بل والاتحاد الأوروبي بأكمله، تضاعفاً كبيراً في أسعار المواد الغذائية والطاقة خلال أزمة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية، رغم امتلاكها عملات قوية واقتصادات متقدمة. وهذا يكشف أن ارتفاع العملة لا يحمي الاقتصاد من الصدمات ما لم يكن قائماً على قاعدة إنتاجية متينة ومستقلة.

 

ومن المفارقات اللافتة أن بعض الدول تمتلك سعر صرف لعملتها أعلى من الدولار، لكنها تعتمد اعتماداً شبه كلي على المعونات الخارجية والمساعدات والمنح الدولية لتسيير شؤونها المالية. فبمجرد توقف تلك المساعدات، تدخل في أزمات خانقة، ويتراجع مستوى المعيشة بسرعة مدهشة. وهذا يبيّن أن قيمة العملة المرتفعة لا تعني بالضرورة قوة الاقتصاد، بل قد تخفي وراءها هشاشة مالية وتبعية اقتصادية مرهونة بالإرادة الأجنبية.

 

لقد أثبتت التجارب أن الدول التي تمتلك إرادة الإنتاج والاعتماد على الذات، لا تهتز أمام الغطرسة والضغوط الخارجية. فاقتصاد الشعوب الحرة لا يُقاس بسعر صرف عملتها، بل بصلابة إرادتها، وطاقتها الإنتاجية، وقدرتها على تحويل التحديات إلى فرص.

 

إن القراءة السطحية للأرقام تجعل الإنسان أسير الوهم، أما الفهم العميق للوقائع فيكشف أن قوة الاقتصاد تُبنى بالعقول والسواعد، لا بالأوراق النقدية ولا بمؤشرات البورصات. ومن يدرك هذه الحقيقة، يفهم أن الهبوط الظاهري للعملة قد يخفي وراءه صعودًا حقيقيًا لقوة الإنتاج، وازدهارًا مستدامًا لا تهزه العواصف.

 

 

 

جليل هاشم البكاء


تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد