كتب رياض الفرطوسي
في الثالث من تشرين الأول 1932 لم يكن العراق يضيف تاريخاً جديداً إلى رزنامة أيامه، بل كان يكتب إعلان وجوده الأول في دفتر العالم. ذلك اليوم لم يأتِ صدفة ولا هدية مجانية من قوة كبرى، بل جاء بعد صراع طويل مع الانتداب البريطاني، وبعد مفاوضات أنهكت الساسة والملك والبرلمان والشعب، حتى بدا وكأن العراق ينتزع اعترافه بالسيادة انتزاعاً.
كان فيصل الأول يعرف أن بقاء العراق تحت وصاية بريطانيا يعني أن هذا الكيان الذي وُلد بعد سقوط الدولة العثمانية سيبقى بلا هوية. لذلك جعل من الانضمام إلى عصبة الأمم هدفه الأسمى؛ لأنه كان يدرك أن الاعتراف الدولي هو الباب الذي لا يُفتح إلا مرة واحدة، ومن يضيّع موعده يبقى أسير الظلال. وهكذا، حين صوّتت الجمعية العامة للعصبة على قبول العراق عضواً كاملاً، كان المشهد أشبه بولادة ثانية: بلد خرج من عباءة الإمبراطوريات، وصار له اسم بين الأمم.
لكن السؤال الذي وُلد مع ذلك اليوم ما زال عالقاً بعد أكثر من تسعين عاماً: هل يكفي الاعتراف الدولي ليكون للعراق وطن؟ أم أن الوطن لا يُبنى إلا حين ينجح العراقيون في صياغة تعريف مشترك لذاتهم؟ فالتاريخ يقول إن العراق امتلك منذ 1932 مقومات الدولة: برلمان، قضاء، موارد، حدود، دستور، جيش ناشئ. غير أن المشكلة لم تكن في الشكل المؤسسي، بل في الجوهر السياسي والاجتماعي. لم يتفق العراقيون يوماً على رواية واحدة لهويتهم، وظل كل نظام يكتب نسخته الخاصة من "اليوم الوطني".
14 تموز كان عيد الجمهورية بالنسبة لجيلٍ رأى في عبد الكريم قاسم قطيعة مع الملكية. 17 تموز أصبح رمزاً آخر مع صعود البعث. 9 نيسان صار تاريخاً فاصلاً لمن رأى في سقوط النظام السابق بداية عراق جديد. حتى التضحيات الحديثة، كفتوى الدفاع ضد داعش والنصر على الإرهاب، رُفعت هي الأخرى كتواريخ مقترحة لعيد وطني. لكن هذه كلها محطات سياسية مشحونة بالجدل، تخدم رواية وتقصي أخرى، بينما الثالث من تشرين يبقى وحيداً لأنه لا يرتبط بسلطة بعينها، بل بلحظة تأسيسية يتشاركها الجميع: لحظة الاعتراف بوجود العراق كدولة مستقلة.
من هنا يكتسب هذا التاريخ فرادته. ليس لأنه خالٍ من الدماء أو الصراعات، بل لأنه يمثل العقد الأول بين العراق والعالم. ففي ذلك اليوم لم يكن العراقيون مجرد رعايا في إمبراطورية، بل باتوا مواطنين في دولة لها سيادة، حتى وإن كانت تلك السيادة نسبية وملتبسة. إنها لحظة نادرة اتفق فيها الداخل والخارج على تعريف واحد للعراق: كيان مستقل له علم واسم ومقعد.
واليوم، حين يُرفع العلم في الوزارات والساحات ويُحتفل باليوم الوطني، لا تكمن أهمية المشهد في البروتوكول الرسمي، بل في ما يطرحه من سؤال على الوعي الجمعي: هل ما زال العراق يعيش بمعنى الاستقلال الذي وُلد عام 1932، أم أننا ما زلنا أسرى نزاعات داخلية تجعل السيادة حبراً على ورق؟ إن استعادة الثالث من تشرين ليست مجرد عودة إلى الماضي، بل هي محاولة لتذكير العراقيين بأن لهم لحظة جامعة تسبق كل الانقسامات.
إن معنى العيد الوطني لا يكتمل في ترديد الشعارات، بل في أن يشعر كل عراقي، مهما كان انتماؤه، أن هذا التاريخ يخصه. فالوطن لا يتسع إن ظل حبيس رواية واحدة، بل حين يتحول إلى ذاكرة مشتركة تصنعها كل المكونات. ومن دون هذه الذاكرة يصبح الاستقلال مجرد وثيقة قديمة محفوظة في أرشيف عصبة الأمم.
لقد صار للعراق وطن في الثالث من تشرين، لكن بقاء هذا الوطن حياً يتوقف على قدرته الدائمة على إعادة تعريف نفسه، لا كمساحة جغرافية أو سلطة حاكمة، بل كعقد اجتماعي يجمع المختلفين تحت سقف واحد. وفي كل مرة يرفع العراقيون علمهم في هذا اليوم، إنما يعيدون صياغة السؤال الأبدي: كيف نصنع من ذكرى الاستقلال مشروعاً دائماً للوحدة؟