كتب رياض الفرطوسي
في زمن تتسارع فيه الأزمات السياسية وتتعقد فيه الحسابات الدولية، يطلّ علينا مشهد غير مألوف من قلب العواصم الأوروبية، حيث تهتز حكومات وتتصاعد أصوات الشوارع، لا من أجل قضايا محلية أو مصالح ضيقة، بل تضامناً مع شعب يبعد آلاف الكيلومترات: فلسطين.
في لاهاي، شلّت الاستقالات المفاجئة حكومة هولندا المؤقتة، بعد أن عجزت عن اتخاذ موقف حاسم إزاء الحرب الإسرائيلية على غزة وخطط التوسع في الضفة الغربية. هذا التردد فجّر انقساماً داخلياً وأطلق احتجاجات شعبية واسعة، دفعت آلاف الهولنديين إلى الشوارع هاتفين من أجل العدالة والسلام. المشهد ذاته تكرر في برلين، حيث واجه المتظاهرون قمع الشرطة الألمانية، لكنهم ظلّوا واقفين، رافعين شعارات الحرية والكرامة لشعب ليس شعبهم، وقضية ليست قضيتهم المباشرة.
هذا المشهد يتجاوز السياسة اليومية وأرقام الانتخابات وحسابات الأحزاب. إنه يكشف عن ولادة وعي جديد يتخطى الحدود والجغرافيا، وعي يرى في الإنسان مرآة الإنسان، وفي الظلم ظلّاً مشتركاً لا يمكن التعايش معه. عندما يتعرض الفلسطيني للحصار، يشعر الهولندي والألماني أن إنسانيته نفسها محاصرة. وعندما يعلو صوت القصف على غزة، يهتز ضمير شاب في أمستردام أو برلين، كأن القذائف تسقط على بيته هو.
إنها لحظة تأسيس لمجتمع عالمي جديد، مجتمع لا يقوم على العرق أو الدين أو اللغة، بل على قيمة أسمى: التضامن الإنساني. عالم تُبنى جسوره بالوعي المشترك، ويُعاد ترميمه بالصوت الجماعي الذي يقول "لا" للقتل، و"نعم" للحياة.
قد تكون مجتمعاتنا العربية فقدت شيئاً من قدرتها على ممارسة التضامن الإنساني فيما بينها، لكنها تجد صداها اليوم في شوارع أوروبا، حيث يرفع غرباء لواء قضيتنا كأنها قضيتهم الخاصة. وربما تحمل هذه المفارقة درساً عميقاً: أن الإنسانية لا تُختصر في هوية واحدة، بل تُعاد ولادتها كل مرة يقرر فيها إنسان أن يقف بجانب آخر لا يعرفه، فقط لأنه يرى فيه إنساناً.
العالم الذي نحلم به لن يولد بقرارات القصور ولا بمؤتمرات السلام الباردة، بل من صرخات الجماهير التي تؤسس لبداية جديدة. مجتمع عالمي لا يُقاس بقوة جيوشه أو حجم اقتصاده، بل بقدرته على أن يحافظ على أبسط ما يجعلنا بشراً: أن نقف مع المظلوم، أيّاً كان، وأينما كان.