رياض الفرطوسي
منذ القدم، كان الشعراء يتسابقون إلى أبواب القصور، حاملين قصائد المديح والهجاء، يسعون لنيل رضا الحاكم وعطائه. كان الشعر وسيلة لتوثيق الحياة الاجتماعية والسياسية، لكنه غالباً ما يعكس الوجه المشرق للقصر، بينما الناس العاديون يعيشون في فقر وجوع واضطهاد.
النساء في قصور الحكام كنّ جزءاً من هذا العالم المبهر للسلطة: منسوبات وحاضنات للترف والنفوذ، وأحياناً عنصراً فعالاً في شبكة المصالح داخل القصر، يتلقفن الهدايا ويحملن أدواراً اجتماعية وسياسية دقيقة. أما خارج تلك الجدران العالية، فكانت حياة العامة غارقة بالحرمان والصعاب.
لم يقتصر الشعر على المديح وحده، فقد كتب بعض الشعراء عن المظالم، عن الغلاء والاضطرابات الاجتماعية، لتصبح نصوصهم نافذة على واقع شعوبهم. لكنها بقيت الاستثناء لا القاعدة، إذ انغمس معظم الشعراء في لعبة السلطة. ويبرز هنا اسم أبو الطيب المتنبي الذي اشتهر بلسانه السليط، ووظف موهبته في المديح المأجور وخدمة الحكام، ولم يتردد في استخدام هجائه سلاحاً ضد خصومه أو من فقدوا مكانتهم لديه.
هذا المشهد لم يختفِ مع زوال السلاطين القدامى، بل تكرر بأشكال جديدة. ففي زمن صدام حسين، اعتمد النظام اعتماداً واسعاً على الشعراء والإعلاميين لتجميل صورته أمام الشعب وتبرير الحروب والمغامرات السياسية. كان الشعر الشعبي وسيلة تعبئة جماهيرية فعّالة، إذ يتحول بسرعة إلى أغنية تلهب الحماسة وتغطي على المآسي. وقد برزت أسماء مثل يوسف الصائغ وعبد الرزاق عبد الواحد، اللذين سخّرا قصائدهما لبناء منظومة الدعاية الصدامية. كما لعب العشرات من الشعراء الشعبيين دوراً مشابهاً حين تحولت قصائدهم إلى أناشيد تمجّد السلطة وتدعو الناس للتضحية في سبيل الحاكم.
واليوم، تعود الصورة بطرق "عصرية": فـ"المهاويل" يكررون وظيفة الشعراء القدامى في تلميع صورة أصحاب النفوذ والمال، وتبرير البذخ والترف. وفي المقابل، يرزح الناس تحت معاناة يومية تتجسد في تفشي الفساد ، وارتفاع تكاليف المعيشة، والتحديات الاخرى .
أما المشهد في قصور اصحاب الشأن ، فيزداد بريقاً عبر السيارات الفارهة والفلل الواسعة، وحاشية من الأعوان المخلصين، إضافة إلى الشبكات العائلية والزبائنية التي تكرّس هيمنة "الخاصة" على الحياة العامة.
وهكذا يكشف التاريخ عن حقيقة ثابتة: السلطة تتلألأ دائماً في مرآة الإعلام والقصور، بينما حياة الغالبية الصامتة تمضي بلا بريق. وهذا التباين بين رفاهية الحكم ومعاناة الناس ظل سمة مميزة لكل عصر، حيث تظهر كل فترة مرآتها الخاصة لتفضح ما وراء الأقنعة، وتؤكد أن الترف يبقى حكراً على القصور، بينما يواصل الشارع دفع أثمان الحياة اليومية.