كتب رياض الفرطوسي
لم يعد يكفي أن يكون الإنسان موهوباً أو مبدعاً ليحظى بالانتباه؛ يكفي أن يقوم باستعراض عابر، حتى لو كان مبتذلاً، ليجد نفسه فجأة في صدارة المشهد. كأنما الشهرة اليوم صارت ثمرة هشة تتدلى على أقرب فرع، يقطفها أول من يمد يده، بينما يظل الإبداع الحقيقي مثل شجرة معمّرة تحتاج إلى وقت وصبر وماء عميق.
ذلك الإبداع لا يصرخ ولا يتوسل التصفيق، بل يشبه نسمة هواء بين أوراق، أو ضوء قمرٍ على سطح نهر. هو جمال لا يلتفت إلى نفسه ولا يطلب شهوداً، ومع ذلك يغيّر حياة من يلمسه.
لكن المشهد مقلوب: من يضيء بصمت يعيش بعيداً عن الأضواء، ومن يلهث وراء الضجيج يملأ الدنيا صخباً. وفي قلب هذا التناقض، يبدو أن العري لم يعد مجرد صورة على شاشة، بل حالة عامة تطوّقنا.
العري الذي أعنيه ليس جسداً يُعرض للحظات ثم يُنسى، بل عُري أمة بأكملها. أمة مكشوفة أمام التاريخ: أطفالها يبيعون المناديل على الأرصفة، ونساؤها يحملن العوز كظلٍّ لا يفارق، وشعوبها تتناثر على قوارب موت تبحث عن شاطئ بعيد، بينما تُحاك في الخفاء خرائط جديدة لوطن يتقلص يوماً بعد يوم.
ومع ذلك، لا تثير هذه المشاهد عاصفة. ما يثيرنا هو ثوب قصير، أو رقصة عابرة، أو صورة محسوبة على فضيحة. المفارقة أن العري الذي يصدمنا ليس سوى ستارة دخان تخفي عرياً أوسع وأعمق: عري الحرية، عري الكرامة، عري العدالة.
في زمن اختلطت فيه القيم، صار الجسد المكشوف خطيئة، أما خيانة الأوطان ونهب الثروات وتفكيك الدول فتمُرّ ببرودة مريبة. صرنا نعيش في مسرح هائل من الاستعراض، حيث السياسة نفسها تتحول إلى "ستربتيز" جماعي: خطب رنانة، شعارات، وعود، ثم انكشافٌ تلو انكشاف.
والجمهور؟
ذلك الكائن الضخم الذي يتفرج ولا يرى، يصفق لما هو أسهل وأسرع وأسطح، لأنه لا يحتمل الجهد الذي يتطلبه الجمال الأصيل. الجمهور يريد اللمعة السريعة، لا الضوء الذي ينحت أعماقاً.
الحقيقة المؤلمة أننا لسنا مجرد متفرجين على عري الآخرين، بل نحن أنفسنا عراة. عراة أمام العالم، وعراة أمام أنفسنا، والأخطر: عراة أمام التاريخ الذي سيكتب يوماً أننا ارتجفنا من صورة على شاشة، لكننا لم نرتجف من أمة تُسلب وهي صامتة.