رياض الفرطوسي
في نهايات سبعينيات القرن العشرين، كانت الصين تخرج من ظلال الثورة الثقافية المثقلة بالانغلاق، باحثةً عن نافذة تطل منها على العالم. في تلك اللحظة المفصلية، استدعى الزعيم "دينغ شياو بينغ" خبراء من كل أفق، لكن التاريخ سيذكر، ولو على استحياء، اسماً عربياً جاء من بلاد الرافدين: البروفيسور إلياس كوركيس، الأكاديمي العراقي وأستاذ التنمية في جامعة أكسفورد، الذي حمل في جعبته رؤية إصلاحية متدرجة، جمعت بين الانفتاح الاقتصادي والصرامة الإدارية.
كوركيس لم يذهب ليغيّر الصين وحدها، بل ليغيّر صورتها عن ذاتها. بدأ من الأساس: حكومة نظيفة، مؤسسات بلا فساد، تدريب وزراء على الإدارة بلغة العالم، تضييق فجوة التنمية بين الأقاليم، ضبط التضخم، وإطلاق ورشة تحديث شاملة تجعل الاقتصاد الصيني شريكاً في السوق الدولية. لم يكن يبيع الأوهام، بل كان يصوغ خطوات واقعية، تزرع الثقة في عقل الأمة قبل أن تزرع المصانع في أرضها.
بعد ثلاثة عقود ونصف، كانت النتيجة مذهلة: دولة فقيرة على هامش العالم صارت قوةً تتحكم في التجارة الدولية، تغزو الفضاء، وتبني مدناً أسرع مما يبني الآخرون أحلامهم. لكن الرسالة الأعمق في هذه الحكاية ليست عن الصين وحدها، بل عن العراق أيضاً. فأن يترك عقل عراقي بصمة في أكبر تحولات القرن، فهذا يعني أن فينا القدرة على النهضة، لو تحررت من قيود السياسة الضيقة والمصالح العمياء.
وفي الوقت الذي نهضت فيه الصين من رماد الحروب والفقر، كانت بلادنا تُساق إلى صراعات عبثية، وحصارات خانقة، وأجهزة أمن تقتات على الخوف، حتى تحولت مواردنا الهائلة إلى شعارات معلّقة، وثرواتنا البشرية إلى طاقات مهاجرة تبحث عن مأوى في أقاصي الأرض.
ومع ذلك، لسنا فقراء في القيم ولا معدمين في الموارد. نملك إرثاً ثقافياً وأخلاقياً، وتقاليد تمنحنا التوازن، وثروات طبيعية ومعادن ثمينة وطاقات بشرية قادرة على البناء. فيما نتطلع إلى أن تتحول هذه الكنوز إلى مشاريع نهضة حقيقية، وأنظمة قادرة على إنتاج العلم والصناعة، وصياغة اقتصاد عصري يليق بتاريخنا وموقعنا وإمكاناتنا.
النهضة ليست حكراً على أحد، ولا هي حظوة تمنحها الجغرافيا أو الحظ. إنها قرار يبدأ من الإيمان بالذات، ثم تحويل هذا الإيمان إلى سياسات ومؤسسات وأفعال. الصين فعلتها حين قررت أن تغيّر، والعراق يستطيع أن يفعلها إذا امتلك شجاعة القرار، وأفسح الطريق للعقول التي تعرف كيف تُخرج الأمم من الظل إلى الضوء.