كتاب واراء

الدولة الكردية المستحيلة

الدولة الكردية المستحيلة

 

ضياء ابو معارج الدراجي 

 

لا يحتاج المتابع للشأن العراقي إلى مجهر دقيق كي يرى أن مشروع الدولة الكردية في شمال العراق لم يعد مجرد حلم مؤجل، بل صار وهمًا سياسيًا تحطمه الحقائق على الأرض والمصالح المتشابكة. من أبرز هذه الحقائق ما يتعلق بالمصالح والممتلكات الكردية المتغلغلة في بغداد والجنوب والوسط، والتي تمثل اليوم أحد أقوى الحواجز العملية أمام أي خطوة انفصالية.

 

فمثلًا، ما من أحد يستطيع إنكار أن نصف تجار الشورجة – القلب الاقتصادي النابض للعاصمة بغداد – هم من الأكراد البغداديين. وهم ليسوا وحدهم. فالمئات، بل الآلاف من رجال الأعمال، والمستثمرين، وحتى كبار الموظفين الأكراد يملكون عقارات وشركات ومصالح اقتصادية في البصرة والنجف وكربلاء والعمارة والكوت وغيرها من مدن الوسط والجنوب. فهل سيُضحّون بكل ذلك من أجل علم فوق قلعة أربيل؟

 

بل أكثر من ذلك، فإن مجرد التفكير بإعلان انفصال رسمي في شمال العراق لا يُهدد المصالح فقط، بل يُهدد السلام الاجتماعي في البلاد. إذ أن غالبية عرب العراق، بما في ذلك العشائر والشرائح الشعبية، لا تميز في لحظة الانفعال والغضب بين كردي وآخر، ولا بين كردي وآشوري أو كلداني أو تركماني. جميع هؤلاء الناطقين بغير العربية سيكونون مهددين بردود فعل شعبية غير محسوبة، قد تبدأ بالمقاطعة الاقتصادية وتنتهي بالتهجير و مجازر انتقامية على شكل رد فعل غريزي على " قضية الانفصال".

 

كركوك النفطية أيضًا لن تكون بمنأى عن أتون الصراع، بل ستتحول إلى مدينة حرب ومنازعات عسكرية بين الأكراد والعرب السنة والتركمان، بسبب تعقيد تركيبتها السكانية وأهميتها الاقتصادية. فمن يملك كركوك يملك ثروة هائلة، ولن يسمح أحد بتفريطها عبر قرار سياسي منفرد.

 

أما سهل نينوى فله وضعه الخاص. فغالبيته من الكلدان والمسيحيين، إلى جانب أقلية أيزيدية منهكة من مجازر سابقة، ما يجعله قابلًا للانفجار في حال تمددت سيطرة الكرد عليه، خاصة مع تنامي الحركات المتطرفة داخل الحدود السورية المحاذية، ووجود تيارات تكفيرية دينية بين بعض الأكراد أنفسهم. إن أي خطأ في هذه الرقعة الحساسة قد يؤدي إلى مجزرة جديدة بحق الأيزيديين أو تهجير جماعي للمسيحيين.

 

نحن لا نتكلم تخمينات، بل واقعًا ملموسًا. فهناك بالفعل من يفكر ويخطط في بغداد وباقي المحافظات من من يمتلك القدرة العسكرية والمعلومات الاستخباراتية، قد وضعت خططًا مسبقة للاستيلاء على الممتلكات الكردية– من عقارات وأموال وأرصدة وحتى مناصب – في حال إعلان الانفصال في شمال البلاد وتهجيرهم اليه بملابسهم فقط.

 

وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذا الحديث لا ينطبق على الأكراد وحدهم، بل أيضًا على العرب السنة، إذ ما فكروا – بدافع سياسي أو ضغط خارجي – بتشكيل إقليم سنّي أو كيان منفصل. فالخريطة السنية موزعة بين بغداد، والأنبار، وديالى، وصلاح الدين، والموصل، وبها امتزاج سكاني واقتصادي يصعب فصله أو عزله عن باقي العراق. كما أن السنّة، شأنهم شأن الأكراد، لديهم مصالح اقتصادية وأمنية وسياسية كبيرة داخل بغداد والمحافظات الجنوبية. وأي تحرك نحو الانفصال لن يقابل بتساهل، بل قد يجر البلاد إلى حرب أهلية ثالثة أو تقسيم دموي تنقلب فيه الجغرافيا إلى مقابر جماعية جديدة.

 

أمثلة دولية: دول قامت على الانفصال وتحولت إلى ساحات حروب ودماء

 

الهند وباكستان (1947): انفصلت باكستان عن الهند بدعوى تمثيل المسلمين، لكن النتيجة كانت واحدة من أعنف موجات التهجير في التاريخ، قُتل فيها أكثر من مليون إنسان. ولا تزال النزاعات حول كشمير قائمة حتى اليوم.

 

جنوب السودان (2011): استقل عن السودان وسط دعم دولي كبير، لكن ما لبث أن دخل في حرب أهلية داخلية دموية بين القبائل، وانهارت مؤسسات الدولة، وتحولت الدولة الوليدة إلى ساحة فقر ونزاع دائم.

 

كوسوفو (1999–2008): رغم إعلان الاستقلال بدعم غربي، إلا أن كوسوفو ظلت محل نزاع مع صربيا، وأدى الصراع العرقي هناك إلى مجازر فظيعة، وما زالت المنطقة على فوهة توتر عسكري بين حلف الناتو وصربيا حتى اليوم.

 

جمهورية ناغورنو قره باغ: انفصال الأرمن عن أذربيجان أدى إلى نشوب عدة حروب دامية، آخرها في 2020، وما زالت المنطقة تعاني من التوتر والحروب والانتهاكات، وسُجلت فيها مجازر جماعية بحق المدنيين من الطرفين.

 

دونيتسك ولوغانسك في أوكرانيا: أعلنتا الانفصال عن كييف بدعم روسي، ونتيجة ذلك اندلعت حرب أهلية ثم تدخل عسكري روسي شامل في 2022، أدى إلى دمار هائل ومئات آلاف القتلى والمشردين.

 

كل هذه الأمثلة تُظهر أن الانفصال لا يصنع دائمًا حرية أو استقرارًا، بل في أغلب الأحيان يفتح أبواب الجحيم الأهلي والمجازر والتهجير، خاصة حين تكون هناك مكونات متداخلة ومصالح اقتصادية بين الأطراف.

 

في المحصلة، يمكن القول إن مشروع الدولة الكردية – أو أي مشروع انفصالي آخر داخل العراق – لم يُفشل خارجيًا فقط، بل سقط من الداخل، بفعل تشابك المصالح والتداخل السكاني والاقتصادي، وحتى التحولات في الوعي الشعبي. فليس من مصلحة أحد في العراق اليوم تفكيك الدولة، لأن كل جزء فيه متداخل مع الآخر كأوردة الجسد. أما حلم الانفصال، سواءً باسم القومية أو الطائفة، فهو في نظر الكثيرين مشروع انتحار جماعي يخدم جهات خارجية أكثر مما يخدم سكانه، وقد يُخلف وراءه نكبات تاريخية لا تُنسى.

 

ضياء ابو معارج الدراجي


تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

المقالات الأكثر زيارة