كتاب واراء

لبنان والسلاح: بين التسليم والاستسلام!

د. عدنان منصور*

 

 

في خضمّ الصراع مع العدو “الإسرائيلي” واحتلاله أراضي لبنانيّة، واستمراره في انتهاك اتفاق وقف إطلاق النار، وتعمّده الاعتداء اليومي على لبنان، مانعاً المواطنين من العودة الى قراهم الحدودية، فيما مقاتلاته ومُسيّراته تقصف مناطق وبيوتاً، وتسوّيها بالأرض، وتقتل وتجرح المواطنين، نجد اللجنة الخماسيّة التي يرأسها أميركي ترصد المشهد، وهي صامتة كصمت القبور منذ دخول الاتفاق حيّز التنفيذ يوم 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024.

الولايات المتحدة ومعها دول أوروبية مؤثرة، كبريطانيا وفرنسا وألمانيا، أظهرت علناً انحيازاً دائماً إلى جانب “إسرائيل”، دون ضوابط أو حدود، تغضّ النظر عن تهديداتها واعتداءاتها اليومية على لبنان، في الوقت الذي يلتزم فيه لبنان بالاتفاق ومضمونه.

أمام استمرار الاحتلال “الإسرائيلي”، واعتداءاته اليوميّة، يُصرّ الغرب ومعه العدو، ومَن يسير في فلكهم في الداخل اللبناني على تسليم سلاح المقاومة دون قيد أو شرط.

انحياز واشنطن ودول الغرب لـ “إسرائيل” وعداؤهم السافر لكلّ مَن يقف في وجه سياساتها، ونفوذها، ومصالحها، أطلق العنان للعدو أن يفعل ما يشاء، يحتل، يدمر، يقتل، ويهجر، ثم يبرّرون عدوانه بحجة “الدفاع عن النفس”! لكن هل يمكن لأيّ عاقل في الخارج، ومراقب حياديّ للشأن اللبنانيّ، أن يتقبّل ويقتنع بتسليم السلاح اللبناني، فيما الاحتلال لا يزال جاثماً على الأرض اللبنانيّة، والعدو مستمر في ممارسة اعتداءاته اليومية!

هل يُعقل أن نرى شريحة من السياسيّين وغير السياسيّين اللبنانيين، من وزراء ونواب حاليين وسابقين، ومن زعماء أحزاب وإعلاميين أن يتبنّوا مواقف الغرب و”إسرائيل” لجهة نزع سلاح المقاومة دون قيد أو شرط؟! قد يختلف اللبنانيون حول مسائل قانونية، واقتصادية، ومالية، وتربوية، وقضايا داخلية عديدة بغية معالجتها وإيجاد الحلول لها، لكن أن يختلفوا على مفهوم السيادة، وكيفية الحفاظ على وطنهم وأمنه القومي، وصون سيادته، وتحرير أرضه من المحتلين، فهذا شيء عجيب، وأمر معيب، لا نجد مثيلاً له في دول العالم التي شهدت حروباً واعتداءات واحتلالات!

لماذا يُصرّ الكارهون للكرامة، والسيادة الوطنية، المهووسون بالسلطة، المنتفعون من الخارج، المتواطئون مع أعداء الوطن، الحاقدون على أبناء جلدتهم، المرتمون في أحضان دول التسلّط التي ذاقت منها شعوب المنطقة الويلات، القهر، والإذلال، وانحيازها السافر للعدو، واعتمادها سياسة التفرقة، والتقسيم والاستغلال، والحصار، والعقوبات! لماذا يُصرّ هؤلاء على السير عكس التيار، يحرّضون الغرب ويؤلّبون “إسرائيل” على المقاومة للنيل منها، ويدفعونها لتجريدها من السلاح، والقضاء عليها! ليقل لنا هؤلاء، هل بتسليم السلاح سيحرّرون الأرض اللبنانية من الاحتلال “الإسرائيلي”، ويضمنون انسحاب العدو الى الحدود الدولية المعترَف بها والمُرسّمة عام 1923 دون قيد أو شرط؟! هل يضمن هؤلاء توقف العدو مستقبلاً عن خروقاته البرية والبحرية والجوية للسيادة اللبنانية؟! عام 2006 تمّ وقف إطلاق النار، حيث التزم لبنان بقرار مجلس الأمن 1701، لكن هل التزمت “إسرائيل” به؟! منذ ذلك العام ولغاية يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، بلغت الخروقات الإسرائيلية أكثر من 35 ألف خرق برّي وبحري وجوي، عدا زرع شبكات التجسّس على الأراضي اللبنانيّة، وأجهزة التنصّت، وتنفيذ عمليات اغتيال بحق العديد من الأفراد.

هل يضمن هؤلاء بعد تجريد لبنان من سلاح شعبه المدافع عن وطنه، عدم استفراد “إسرائيل” به مستقبلاً؟! مَن يحمي لبنان وهو في مواجهة عدو متوحّش متربّص، يريد أن ينقضّ عليه في أيّ وقت؟! هل سمع هؤلاء “الغيارى” على لبنان، وسيادته، ما طالب به وزير المالية “الإسرائيلية” سموتريش حكومته “بضمّ لبنان إلى دولة إسرائيل”؟! هل بإمكان هؤلاء الغيارى على سيادة لبنان، بعد تسليم السلاح، إيقاف شهية تل أبيب على القضم والضمّ؟! هل بإمكان هؤلاء مستقبلاً منع “إسرائيل من استباحة الليطانيّ وما بعد الليطانيّ وسرقة مياهه؟! هل قرأ هؤلاء كتاب نتنياهو “مكان بين الأمم”، الذي ذكر فيه بكلّ وقاحة، أنه في مؤتمر فرساي الذي عُقد عام 1919 بعد الحرب العالمية الأولى، “تنازلت الحركة الصهيونية عن مطالبها بمياه نهر الليطاني في جنوب لبنان، الذي كان من المقرّر أن يكون مصدر المياه الرئيسي للاستيطان اليهودي”؟! ليقل لنا هؤلاء الحريصون” على سيادة الدولة والوطن، الذين يراهنون ويعتمدون على الدبلوماسيّة في تحرير الأرض من المحتلّين، هل استطاعت الدبلوماسيّة التي افتقرت إلى القوة، تحرير أرض الجنوب من الاحتلال الذي دام 22 عاماً، وحمل “إسرائيل” على تطبيق القرار الأمميّ 425؟!

 

بأيّ منطق يُصرّ هؤلاء على نزع سلاح المقاومة قبل انسحاب العدو من الأراضي المحتلة، وقبل الحصول على ضمانات أكيدة، تمنع “إسرائيل” مستقبلاً من القيام بأيّ عدوان على لبنان؟! أعلى الدبلوماسيّة فقط يعتمد هؤلاء اليوم لتحرير الأرض، بعد أن أصبحت الولايات المتحدة بمثابة حائط مبكى لهم، ولم يعُد في حيلتهم شيئاً، سوى ذرف دموعهم “الدبلوماسيّة” على جداره!

هل يعلم هؤلاء أنّ المقاومة الفرنسيّة، والجزائريّة، والفيتنامية، والصينية والإندونيسية، ومقاومة شعوب أميركا الشمالية واللاتينية، هي التي حرّرت الأرض من الاستعمار البريطاني، والفرنسي، والألماني، والإسباني، والبرتغالي، والأميركي، والياباني والهولندي؟!

ما الذي سيفعله هؤلاء “الغيارى” على الوطن للدفاع عن سيادته وأرضه؟

ما الذي ننتظره من عُمي البصيرة، المشبعين بالحقد الأعمى، والكراهية، خاصة في شمال الوطن، الذين لم يتوقفوا عن إسهالهم الفكريّ في التهجّم المستمرّ على السلاح “غير الشرعيّ” وحامليه، ولم يتخلّوا في كلّ مناسبة عن هلوستهم واجترارهم الكلام الفارغ عن “الفرس” و”ولاية الفقيه”، في الوقت الذي تلوح في الأفق مشاريع إقليمية خطيرة، تحيكها غرف سوداء في الخارج والإقليم، تهدف الى سلخ أجزاء من لبنان تقدّم مكافأة وهبة للآخرين، بموجب تسوية دولية إقليمية قذرة يدور الحديث عنها! ليقل لنا هؤلاء الحمقى بأيّ شيء سيواجهون ما يُبيّت للبنان من مشاريع تقسيمية مدمّرة، تستهدف في الصميم وجوده ووحدة شعبه وأرضه؟! قولوا لنا، كيف ستحمون بعد ذلك لبنان؟! أبالدبلوماسية، أم بتسليم السلاح، أم بالرضوخ لقرار الأمر الواقع الأميركي الإسرائيلي، أم بذرف الدموع على حائط المبكى الأميركي، أم بالتوسّل لتل أبيب، أم بالتسكع على أبواب مجلس الأمن، وعتبات واشنطن ولندن وباريس؟!

إلى هؤلاء المطالبين بتسليم السلاح نقول: لو كان على شاكلتكم سيمون بوليفار، وماوتسي تونغ، وهوشي منه، ونجوين غياب، وشارل ديغول، وأحمد سوكارنو، وأحمد بن بيلا ورفاقه، وجوزيف تيتو، وجمال عبد الناصر، وفيدل كاسترو، ونيلسون مانديلا، لما تحرّرت أوطانهم من الاستعمار والاحتلال، والهيمنة، والاستغلال. لكنكم لستم من طينة هؤلاء، وأنتم الذين آثرتم الذلّ، والخنوع، وشهوة السلطة، والمناصب، والارتماء في أحضان أسيادكم! أنتم لستم إلا من طينة ماركوس في الفليبين، ونوري السعيد في العراق، وحسني الزعيم في سورية، وجوزيف موبوتو في الكونغو، وباتيستا في كوبا، وبينوشيه في تشيلي، وارباس في بنما، وكاستيلو ارمس في غواتيمالا، وهرتادو في الأكوادور، وغيرهم كثر من عشاق السلطة، والعمالة، والمال، وخيانة الأوطان.

حماية سيادة الوطن تصان بقوة السلاح، ولا تصان بالانبطاح، والعمالة، والاستجداء، والركوع، ورفع الراية البيضاء، أمام عدو مجرم، لم يتوقف يوماً عن إدمانه على العدوان والحروب منذ تأسيس كيانه وحتى اليوم!

لولا العملاء في الداخل اللبناني، ورهانهم على الأميركي والإسرائيلي، وتعلّقهم بهما، لما تجرّأ العدو أن يذهب بعيداً في عربدته وعدوانه، حيث يرى في عملائه، سنداً وعضداً وعوناً، وطابوراً خامساً وفياً له عند الاستحقاق.

ما أحوج هؤلاء إلى البصيرة، وما أحوج اللبنانيين إلى وحدة الصف والهدف. من يراهن ويعوّل على العدو، لن يلقى منه إلا حديداً وناراً، وقتلاً، ودماراً.

قريباً يذوب الثلج عن هؤلاء وتتكشّف بوضوح حقيقتهم المخزية، وما قدّموه للعدو، وما جنوه على لبنان وشعبه، وأرضه، وسيادته!

 

*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق

 

  


تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

المقالات الأكثر زيارة