كتاب واراء

حين تعود بغداد أمة

 

 

كتب رياض الفرطوسي 

 

الساعة العربية لا تزال تبحث عن زمنها المشترك. في وقتٍ تتقلب فيه خرائط النفوذ العالمي، وتنقلب فيه الموازين تحت أقدام التحالفات الكبرى، يقف العرب على تخوم المأساة بانتظار قمةٍ تضيء شيئاً من العتمة، أو توقد شمعةً في نفق الأزمات المتراكمة. العالم يشتعل: حروب تجارية تهدد الاقتصاد الدولي، أسعار الذهب والعملات تتراقص على إيقاع التوترات، بورصاتٌ تتهاوى وأخرى تتصاعد بلا منطق سوى الشكوك. أما العرب، ففي وسط هذه العاصفة، لا يزالون يلهثون وراء طمأنينةٍ مؤجلة، وتضامنٍ مؤجل، ومصيرٍ يبحث عمّن يصوغه بإرادة لا تهتز.

 

لكن العراق، وسط هذا الركام، لا يزال يُغني بلغته الخاصة. لغة البناء، لغة الموقف، ولغة العقل. يدعو إلى قمة في بغداد، لا لمجرد الاستعراض، بل لأن الجرح العربي نازف، ولأن الغطرسة الصهيونية الأمريكية لم تترك خياراً آخر سوى المواجهة بالحد الأدنى من الكرامة.

 

تخيّلوا لو كانت لدينا صناعة عربية متكاملة، تدمج التكنولوجيا بالخبرة، وتصنع كل شيء بيدٍ عربية، وبعقلٍ عربي. ألا يمكن حينها أن نكفّ عن استيراد الأشياء ممن يصنعونها ليبتزّونا بها إذا اقتضت مصالحهم؟ أليس ذلك أوضح من الشمس؟ أليس في مقدورنا أن نكفّ عن شراء وسائل القتل ممن يستخدمونها ضد أطفالنا؟ إننا اليوم نشتري سلاحنا من أولئك الذين يبيعوننا الموت بأيدٍ باردة، ثم يضعون شروطهم على أعناقنا ويهددوننا بقطع الإمدادات إن نحن اعترضنا على قتل أطفالنا في غزة أو دعمنا قضية عادلة هنا أو هناك.

 

نحن، كأمة، نملك من العقول والخبرات والموارد ما يمكّننا من تأسيس صناعات متكاملة. ليست تلك مجرد أمنيات، بل مشاريع مؤجلة كان يمكن لها أن تبصر النور لولا الحواجز المصطنعة، والحدود المرسومة بالدم والتفرقة. العراق وبعض الدول العربية بدأوا خطوات مهمة في هذا الاتجاه، فماذا لو تكاملت تلك الجهود؟ ماذا لو قررنا أن نمتلك أدوات قوتنا بأيدينا؟

 

القمم العربية، عبر تاريخها، كثيراً ما كانت منصات للخطابات والتوصيات، لكن اللحظة الراهنة لا تحتمل مزيداً من البلاغة، بل تتطلب هندسة جديدة للموقف العربي. نحن بحاجة إلى اتفاقية عربية شاملة للأمن والدفاع والاقتصاد، تُبنى على المصالح المشتركة، لا على لغة المحاور والاستقطابات. هذه الاتفاقية يجب أن تكون بمثابة جبهة موحدة، لا تكتفي برفع الشعارات، بل تترجم التعاون إلى بنى تحتية حقيقية في التعليم والصناعة والتكنولوجيا والزراعة.

 

تخيلوا لو أن المصانع في بغداد والرياض وعمان والقاهرة وتونس وطرابلس والرباط كانت تشترك في إنتاج معدات دفاعية وصناعية وزراعية وخدمية، بمواصفات عربية خالصة، تستجيب لحاجاتنا، وتُسهم في تقليص التبعية للخارج. عندها، هل كان ممكناً لأي قوة أن تستفرد بدولة منا؟ هل كانت الحروب الداخلية ستجد أرضاً رخوة لتتفجر فيها؟ هل كانت الابتزازات الأمريكية ستجد طريقها إلى قصور القرار السياسي العربي؟

 

إن الدعم الأمريكي غير المشروط لإسرائيل، والذي يفرغ الضغوط الدولية من مضمونها، ليس إلا تعبيراً صارخاً عن احتقار هذه الإدارة لمشاعر الشعوب وحقوقها. وما تصريحات الرئيس الأمريكي، ولا زياراته الانتهازية إلى دول الإقليم، إلا استمرار لمنهج استعماري قديم، مغلف بأقنعة الديمقراطية، لكنه قائم على ذات الكذبة: أن الرجل الأبيض وحده من يملك الذكاء والشرعية لتقرير مصير الآخرين. أما الشريك الجديد في هذا السيناريو، فهو الكيان الصهيوني، الذي بزّ كل ما فعله المستعمر الأوروبي من قسوةٍ ودمار.

 

ما يجري في غزة ليس مجرد انتهاك، بل هو مشروع هندسي شامل لإعادة تشكيل الجغرافيا والديموغرافيا بما يخدم رؤية استعمارية صهيونية طويلة الأمد. التهجير، القتل، محاولات تسمية أوطان بديلة للفلسطينيين، ليست سوى جزء من هذه الخطة. وها هو نتنياهو، الذي يتقن الرقص على أنقاض الضحايا، يعلن رؤيته لتوسيع الكيان وكأن الأرض ملك شخصي له، ويصف مصر والأردن والسعودية كخيارات مطروحة لتوطين الفلسطينيين، في واحدة من أبشع جرائم العصر ضد حق العودة.

 

أما الولايات المتحدة، فهي تكمل المشهد، لا كحليف بل كعرّاب لهذه الجرائم، إذ تهدد بقطع المساعدات إذا لم يتم الامتثال، وتغطي كل فعل إجرامي بحصانة دبلوماسية.

 

في هذا السياق، يصبح مؤتمر قمة بغداد أكثر من ضرورة، بل حاجة وجودية للأمة. فالرهان اليوم لم يعد على بيانات الشجب، بل على ما إذا كنا سنستعيد زمام المبادرة، ونُعيد تعريف علاقاتنا مع أنفسنا أولاً، ومع العالم ثانياً. هل سنقبل أن نبقى أدوات في رقعة شطرنج دولية تحركها واشنطن وتل أبيب؟ أم سنفكر بعقل الأمة، لا بعقل الدولة فقط؟

 

لم يعد مقبولًا أن يرى البعض أن الخلاص الذاتي أهم من الخلاص الجماعي. هذا الفهم هو بالضبط ما أوصلنا إلى هذه اللحظة من التشرذم والضعف. إن الحل لا يكمن في الانعزال، بل في التكامل؛ لا في الخصام، بل في التعاون. وكل تجربة وحدوية ناجحة – من الاتحاد الأوروبي إلى تجمعات شرق آسيا – بُنيت على هذه القاعدة الذهبية.

 

إن العراق اليوم يقدم نموذجاً مغايراً في زمن الصخب، يُنادي بالاستقرار لا من موقع الضعف، بل من موقع الإدراك العميق أن الأمن الحقيقي لا يُبنى على أشلاء الآخرين. رؤيته تتمثل في إطفاء الحرائق، لا تأجيجها، في دعم حق الفلسطيني، لا التفاوض على كرامته، في رفض العدوان، لا التماهي معه. هذا الموقف العراقي هو نواة لرؤية عربية أوسع، تستحق أن تُبنى حولها تحالفات صلبة.

نحن أمام لحظة نادرة: لحظة قد نكون فيها قادرين على إعادة رسم المعادلة، لا انتظار ما يُرسم لنا. لحظة يجب أن نقول فيها: كفى. كفى ارتهاناً، كفى انقساماً، كفى انتظاراً.

 

لقد أضعنا وقتاً طويلًا في خلافات زرعها خصومنا، وسقوها حتى نمت شوكاً في جسد الأمة. واليوم، ونحن نشاهد التاريخ يعيد نفسه في أبشع صوره، لا نملك ترف الصمت. فالصمت لم يعد حياداً، بل صار تواطؤاً.

 

إن الشعوب الحيّة وحدها من تخلق مصيرها. وإن الكرامة لا تُستجدى، بل تُنتزع.

 

فلتكن قمة بغداد بدايةً، لا نهاية، لزمنٍ عربي جديد.

 

وحين تعود بغداد أُمّة، تعود العروبة فعلًا لا شعاراً.


تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد