كتاب واراء

متى ينتزع العالم أنياب الإمبراطورية الجائرة؟!

 

 

 

‬ د. عدنان منصور

 

لم يشهد العالم منذ فجر التاريخ دولة تتحكّم بالعالم كله، بكلّ شراسة، واستبداد، وتسلّط، وعنجهية، كالإمبراطورية الأميركية الحديثة التي قادها رؤساء، مبللة أياديهم بالحروب وبدمار دول، ونهب ثروات شعوبها! إمبراطورية يتوّج عنجهيتها الرئيس الحالي دونالد ترامب، ليكشف عن حقيقتها الدامغة، وهي تتعاطى مع دول وزعماء العالم بازدراء، واستخفاف، وغطرسة، وتجبّر، واستعلاء، في زمن آثر العديد من حكام دول العالم الخضوع برضاهم أو رغماً عنهم، أو عجزاً منهم لسيد البيت الأبيض.

 

إمبراطورية لا تكترث بمبادئ الأمم المتحدة، ولا بمجلس الأمن، ولا بالقرارات الأمميّة ولا بمنظمة حقوق الإنسان، ولا تلتزم وتحترم ما تقرّره المحاكم الدوليّة! إمبراطورية ترى نفسها محور العالم وفوق الجميع. تأمر فتطاع، تبتزّ فيُستجاب لها، تطلب فتأخذ، تهدّد فتستولي…

 

رغم إنشاء منظمات دولية عديدة، كـ بريكس، وشنغهاي وبروز دول عظمى على الساحة الدولية، لم تتمكّن هذه الدول حتى الآن من لجم ووضع حدّ للإمبراطورية.

 

رغم الحديث والادّعاء النظري عن أفول الأحادية الأميركية في العالم، لا سيما بعد ظهور قوى كبرى، نجد أنّ أذرع الأخطبوط الأميركي لا تزال تمسك بمفاصل العالم السياسية، والاقتصادية، والمالية والعسكرية والتكنولوجية.

 

من يجرؤ اليوم أن يدّعي كسر هيمنة الإمبراطورية على العالم، وتحكّمها بقراراته، بعيداً عن التخمين، والتنظير والتحمّس؟!

 

كيف يسمح لنفسه الاتحاد الأوروبي الذي يبلغ عدد سكانه 450 مليون نسمة، وناتجه المحلي الإجمالي السنوي بما فيه بريطانيا 19.19 ترليون دولار، وفقاً لبيانات البنك الدولي، مع ميزانيته العسكرية التي بلغت 354 مليار دولار، أيّ %30 من الإنفاق العسكري للحلف، أن يكون رهن إشارة الإمبراطورية، وتحت مظلتها، حيث لا يستطيع تجاوز أو رفض أيّ قرار تفرضه الولايات المتحدة على دولة أو أكثر في العالم بل يرى نفسه مجبراً على الالتزام بقرارها وإنْ كان القرار غير محقّ؟!

 

ألم يخضع الاتحاد الأوروبي ويلتزم بالعقوبات التي فرضها ترامب على إيران بعد انسحابه من الاتفاق النووي، فيما الاتحاد يعرف جيداً أنّ القرار غير مبرّر، ولو كان مبرّراً لانسحبت بريطانيا وفرنسا وألمانيا منه؟!

 

مَن يجرؤ في أوروبا ليقول لا للإمبراطورية؟! ومَن يجرؤ في عالمنا العربي ليقف في وجه الولايات المتحدة ويقول لها بصوت عالٍ كفى تسلطاً، واستبداداً، وابتزازاً، ونهباً؟! مَن هو الزعيم والحاكم في أفريقيا، الذي له الجرأة على الخروج من عباءة الإمبراطورية؟! مَن يجرؤ في آسيا ـ باستثناء قلة من الدول تحافظ على كرامتها وسيادتها ـ ليقف نداً في وجه الولايات المتحدة؟! مَن يجرؤ في القارة الأميركية أن يقول لا للولايات المتحدة باستثناء دول لا يصل عددها إلى أصابع اليد.

 

كندا ردّت بقوة ودافعت عن سيادتها وكرامتها عندما عزم ترامب على ضمّها إلى الولايات المتحدة وجعلها الولاية الـ 51، كان ردّها عبر الانتخابات الفدراليّة التي أسفرت عن فوز رئيس الحزب الليبرالي، رئيس الوزراء الحالي مارك كارنيه Mark Carney الذي أعرب عن نيّته الجلوس مع الرئيس الأميركيّ لمناقشة العلاقات الاقتصادية والأمنية «وفقاً لمبدأ دولتين ذات سيادة». سبق لكارني أن وجه كلامه لترامب أثناء الحملة الانتخابية يوم 3 نيسان/ أبريل الماضي قائلاً: «كندا مستعدة لتولي دوراً قيادياً في بناء تحالف من الدول ذات التوجهات المتشابهة التي تشاركنا قيمنا». وقال بصوت عالٍ أمام الناخبين: «كما كنتُ أحذر منذ أشهر، أميركا تريد أرضنا، ومواردنا، ومياهنا، وبلدنا، هذه ليست تهديدات فارغة، الرئيس الأميركي يحاول كسرنا حتى تتمكّن أميركا من امتلاكنا. لن يحدث هذا أبداً… لقد تخطّينا صدمة الخيانة الأميركيّة، لكن يجب أن لا ننسى الدروس، ويجب أن نعتني بأنفسنا، وفوق كلّ شيء أن نعتني ببعضنا البعض». كما شدّد على تبني «نهج صارم مع إدارة ترامب في ما يتعلق بالرسوم الجمركية».

 

ماذا عن العالم العربي ووضعه الحالي المؤلم، الذي لا يُحسد عليه! هل يوجد فيه من يقول بكلّ قوة للإمبراطورية ورئيسها ترامب، كفى كفى، على وقوف الإمبراطورية مكتوفة الأيدي، تغضّ النظر عمداً عن أكبر الجرائم ضدّ الإنسانية، والإبادة الجماعية، والتطهير العرقي، التي تجري على يد «دولة الاحتلال الإسرائيلي»، متجاهلة وغير عابئة كلياً بقرارات محكمة الجنايات الدولية، ولا بمحكمة العدل الدولية، ولا بمبادئ الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن، في الوقت الذي تقول فيه منظمة العفو الدولية: «إنّ ترامب أظهر ازدراء مطلقاً للنظام العالمي لحقوق الإنسان، بعد 100 يوم من ولايته. والهجمات على النظام العالمي لحقوق الإنسان، تسارعت منذ عودة ترامب إلى السلطة»!

 

هل هناك من حاكم عربي شجاع، لديه الجرأة الكاملة ليقول لترامب مثل ما قاله كارني؟! متى يستطيع الحاكم في عالمنا العربي أن يقول لشعبه وللعالم بصوت عالٍ: أميركا تريد أرضنا، ومواردنا، وثرواتنا، ونفطنا، وغازنا، ونهبنا، وتقسيمنا، وتقزيمنا، وابتزازنا والسطو على أموالنا، والتحكم بمقدراتنا، وقراراتنا وسيادتنا! مَن يجرؤ على الخروج من سطوة الهيمنة الأميركية، ومن عباءة الإمبراطورية، ويعمل على تبني واتخاذ موقف عربي موحّد صارم يعبّر عن كرامة 500 مليون إنسان، يحرّر العالم العربي من فظاعة الكابوس الأميركيّ الذي يكبت أنفاسه، وأنفاس العالم كله.

 

هذا هو العالم الذي تديره الإمبراطورية بكلّ قوتها وجبروتها. واستبدادها. أمامها تنحني وتخضع المنظمات الأممية والدولية بكلّ ما فيها لقراراتها الأحادية الجانب، حيث لا تستطيع هذه المنظمات الصمود طويلاً أمام جبروت الإمبراطورية، أو معارضة ومواجهة سياساتها بشكل حازم وفعّال.

 

بعد وصوله إلى البيت الأبيض، أثار الرئيس ترامب ذهول الدول بقراراته الصادمة للعالم، إلى جانب قراراته الداخلية التي تطال الدولة العميقة التي لا شأن لنا بها، إلا أنّ قراراته الخارجية طالت مباشرة دولاً ومنظمات عالمية.

 

خلال الـ 100 يوم من حكمه، انسحب ترامب من اتفاقية باريس للمناخ، وقرّر وقف تمويل الأونروا، كما اتخذ قراراً يقضي بانسحاب واشنطن من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وفرض عقوبات على المسؤولين في محكمة الجنايات الدولية بسبب قرارها إدانة مسؤولين «إسرائيليين» لارتكابهم جرائم ضدّ الإنسانية في غزة. انسحب أيضاً من اليونسكو، ومن منظمة العمل الدولية، وخفض مساهمة الولايات المتحدة في ميزانيات المنظمات الدولية، منها الأمم المتحدة.

 

الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية كالامار، ذكرت في تقريرها السنويّ يوم 29 نيسان/ أبريل 2025، «أن ترامب أظهر ازدراء مطلقاً للنظام العالمي لحقوق الإنسان، بعد 100 يوم من ولايته. إنّ الهجمات على النظام العالمي لحقوق الإنسان، تسارعت منذ عودته إلى السلطة».

 

بدورها، الأمينة العامة للمنظمة في المانيا دوخرو، وأثناء عرضها للتقرير السنويّ، صرّحت قائلة: «إنّ إعادة انتخاب ترامب تشكل خطراً يتمثل في نهاية القواعد والمؤسسات التي أنشئت بعد الحرب العالمية الثانية لضمان السلام والحرية والكرامة لجميع الشعوب».

 

إنها الإمبراطورية الأميركية المتفلتة التي تتحكم برقاب دول، وحكام، وشعوب وتمسك بأعناقهم!

 

ما أحوج عالمنا اليوم ليرفع الصوت عالياً وينادي: يا دول العالم الحرة، انتفضي، وفي وجه الإمبراطورية المستبدة، اتحدي…

 

 

 

 

*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق


تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

المقالات الأكثر زيارة