كتاب واراء

بصائر رواية امرأة تكتب الحياة بألوان الألم

 

 

د. بتول عرندس 

 

كنا صديقتين تعرفنا إلى بعضنا كما تتعرف الأرواح إلى ظلها

وفي يوم دافئ قررنا أن نلتقي بعيدًا عن زحام العمل ومشاغل الحياة

كان يوماً يخصها كانت إجازتها الوحيدة من دوامها الطويل في أحد مراكز الدولة

اتفقت معها أن نلتقي على طاولة فطور ،

جلست قبالتي

تحمل كوب قهوتها كما يحمل أحدهم ذكرى بعيدة

تبتسم برقة من اعتاد أن يخفي خلف شفتيه وطناً كاملاً من الألم

 

بدأ الحديث كغيم خفيف

ثم فجأة تسرّب وجعها بين كلماتها

لم يكن وجعاً باكياً

كان وجعاً مشتبهاً بالحكمة

 

قالت لي وهي تلتفت إلى النافذة

كأنها تسترجع وجوهاً رحلت قبل أن تكبر

أنا بنت الغربة

طفلة المهجرين الذين حملوا بيوتهم على ظهورهم ومضوا نحو مدن لا تعرف أسماءهم

 

في الغربة تعلمت أن الحنين ليس عيباً بل معجزة

أن تحمل شوقك ولا تنكسر

أن تفتقد كل شيء ولا تفقد نفسك

 

عادت إلى بغداد ذات غصة

بنت حياتها من جديد تزوجت

أنجبت بنتاً وولداً

وسارت بين أوراق العمل الثقيلة كمن يحفر مجده على صخر صامت

 

ثم جاء المرض

كالضيف الثقيل الذي لا يطرق الباب

أخذ من جسدها الكثير

لكن روحها بقيت ثابتة لم تنحن

 

سافرت تحمل جسدها المتعب وكفها مملوءة بالريشات

كانت ترسم في لحظات العلاج كما لو كانت تنتقم من المرض بالرسم

تصنع من خيبات الجسد أجنحة للأمل

 

شاركت في معارض بغداد

عرضت لوحاتها التي كانت تحكي قصتها دون أن تقول شيئاً

كانت تلوّن الحياة حين كان الآخرون يطفئونها

 

بصائر

اسم يشبه النبوءة

كانت تقول دون أن تتكلم

لا أحد يهزم امرأة قررت أن تبتسم وهي تنزف

 

علمتني أن المرأة ليست وظيفة ولا مهمة منزلية

هي حياة كاملة تقاتل تحت ابتسامة

وتربي جيلاً تحت سقف من الأمنيات

وتخفي تعبها كأنها تخفي كنزاً لا يحق لأحد أن يراه

 

علمتني أن المرض ليس النهاية

وأن الشقاء لا يبرر الانكسار

وأن المرأة حين تربي أولادها في زمن ضيق الحال

تصنع وطناً صغيراً ينتصر دون أن يخوض حرباً

 

خرجنا بعد الفطور ونحن نحمل الخبز والقصص والضحك

أما أنا فخرجت أحمل دروساً كتبتها امرأة اسمها بصائر

امرأة لا تنحني إلا لتزرع الحياة

 

ليس الوجع ما يصنع الهزيمة

ولا الغربة ما تسرق الأحلام

المرأة التي تشبه بصائر

تعلمنا أن الألم ريح عابرة

وأن الجمال يولد أحياناً من حطام المعركة

 

تعلمنا أن نبتسم حين تضيق الأرض

وأن نحب الحياة أكثر

حتى لو كانت تمضي بثقل الغياب

 

بصائر كانت امرأة

وكانت درساً

وكانت قصيدة لا تكتب

بل تُعاش

 

كنت أردد في داخلي كمن يرتل صلاة قديمة:

لتكن كل امرأة، في زمن الانكسار، بصائر


تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد